ـ الثانية: دخلت سنة ١٩٥٢ مستشفى " الأميرة فريال " لإجراء جراحة بالكلية اليسرى، وكنت أشكو من وجود أحجار بها، وبلغنى وأنا فى انتظار العملية نبأ اعتقال الفرنسيين للشيخ " عبد الواحد بن عبد الله " من علماء " الرباط " وكان يدعو فى دروسه إلى تقدير التضحية والاستبسال فى نصرة الحق، وتساءل لماذا يضيق الفرنسيون بكفاحنا لتحرير بلادنا، ويعدون ذلك جرماً وهم يقدسون السيدة " جان دارك " لأنها بذلت وسعها فى سبيل وطنها؟ أليست لديهم مثالاً يحتذى؟
ولم يعجب هذا الكلام إدارة الحماية الفرنسية فقررت اعتقاله.. ووافق الاعتقال أن بعض الناس كان يدعو للتقارب بين المسيحية والإسلام، فكتبت رسالة للبابا بيوس الثانى عشر منبهاً إلى ما حدث، ومذكراً بأن عالماً مسلماً لديه هذا التفتح الفكرى لا يسوغ أن يلقى هذا المسلك، وأنه لن يعقب هذا إلا توسيع شقة الخلاف بين مسلمى المغرب والنصارى المقيمين فيه!
وزارنى بعد تحرير الرسالة الأستاذ " ماسينيون " المعروف بتدينه وإخلاصه الشديد لمسيحيته، فأنعم النظر فيها ثم قال لى: هل أنت مخلص فيما تبديه من رغبة التقريب بين المسلمين والمسيحيين، على أساس القيم الأخلاقية المشتركة بين الدينين؟
قلت: نعم أيها السيد الجليل، ولو لم أكن مخلصاً ما كتبت هذه الرسالة فى وقت أتهيأ فيه لجراحة خطيرة قد ألقى فيها ربى، وأنا أتطلع إلى عفوه. قال: ثق أن البابا لن يستجيب لك ولا لغيرك لأنه يأخذ المال من الصهاينة. ولما رآنى استغربت قوله، قال لى: يا سيد علال لا تستغرب، وما يفعله البابا لا يجعلنى أتخلى عن مسيحيتى، كما أن قولى هذا لا يخرجنى عن دينى الذى تعلم مقدار تمسكى به.
وقد صدق " ماسينيون "، فإن البابا لم يكلف نفسه عناء الرد على رسالتى.. " وماسينيون " مستشرق كبير، وكان عضواً فى مجمع اللغة العربية، وكان فيما أعلم مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسية، وهو شديد التعصب للنصرانية.
والبابا الذى تحدث عنه " ماسينيون " غير البابا الذى أصدر الوثيقة الشهيرة بتبرئة اليهود.