للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اللون من التحضر يوجه كل اهتمامه إلى الوسائل فيجعلها غايات في ذاتها ويهمل الغايات الحقيقية التي يجب أن يتوجه لخدمتها كلها يتبع منها كل ألوان التقدم والتحضر.

والأديان كلها خلاف ذلك تماما، فهي تجعل الإنسان غاية في ذاته لكل تقدم مقصود وما عدا الإنسان في هذا العالم يعتبر وسيلة له، ومن هنا نجد الأديان كلها قد وجهت عنايتها إلى الإنسان أن يهمل الوسائل باعتبارها مرآة وجوده وعنوان تحضره، وهذا هو الفرق الدقيق بين موقف الأديان من معنى التحضر وموقف أولئك الرافضين للدين بدعوى أنه يعوق التقدم، فإن أولئك يهتمون بتقدم الأشياء في ذاتها على حساب التقدم الإنساني؛ فإن تقدم الإنسان في ذاته شيء وتقدم الأشياء المحيطة به شيء آخر، وهم بذلك يهتمون بالوسائل على حساب الغاية، وهذا عكس الموقف الديني الذي يهتم بالغاية في ذاتها ولا يهمل الوسائل.

ولعل بوادر الإفلاس لبعض الحضارات المادية قد بدت واضحة في معظم دول أوروبا، حيث ظهرت حركات التمرد التي تعبر عن روح الشباب الثائر على كل شيء أمامه؛ لأنه لم يجد فيه ما يبعث روح الأمن والأمان اللذين هما غاية الإنسان وأمله في حياته.

وأوروبا لم يتقدم لأنها أهملت الدين أو نفضت يدها منه كما يزعم هؤلاء، بل تقدمت أوروبا؛ لأنها أخذت بأسباب التقدم وملكت ناصيته، كما أن الشرق لم يتخلف بسبب تمسكه بالدين أو أخذه بمفاهيمه، وإنما يرجع تأخر الشرق؛ لأنه أهمل الأخذ بأسباب التقدم ولم يسْعَ إليها، وهذا قانون إلهي عام في جميع الأمم ينطبق على الأمة الإسلامية كما ينطبق على الأمم الكافرة، فمن يأخذ بالأسباب يصل ضرورةً إلى النتائح إذا توافرت العوامل المساعدة، ومن يهمل الأساباب لا يمنى نفسه بالوصول إلى نتائج، فالدين مفترى عليه في هذه المقارنة، وينبغي أن نتلمس أسباب تقدم الغرب وتأخر الشرق بعيدا كل البعد عن هذه الأكذوبة المقصودة

<<  <   >  >>