«إكسير الذهب فى صناعة الأدب» من تصنيفه، فكان يحكى يوما ويقول: ما رأيت عاشقا للعلم أىّ نوع كان مثل هذا الإماء، فإنه يطلب العلم للعلم، وكان كذلك.
ومن حمد سيرته أنه ما كان يستصغر أحدا حتى يسمع كلامه، شاديا كان أو متناهيا، فإن أصاب كياسة فى طبع أو جريا على منهاج الحقيقة استناد منه، صغيرا كان أو كبيرا، ولا يستنكف عن أن يعزى الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، ولا يحابى أحدا فى التزييف إذا لم يرض كلاما، ولو كان أباه أو أحدا من الأئمة المشهورين.
وكان من التواضع لكل أحد بمحل يتخيّل منه الاستهزاء، لمبالغته فيه، ومن رقّة القلب، بحيث يبكى إذا سمع بيتا أو تفكر فى نفسه ساعة، وإذا شرع فى حكاية الأحوال وخاض فى علوم الصوفية فى فصول مجالسه بالغدوات أبكى الحاضرين ببكائه، وقطّر الدماء من الجنون بزعقاته ونعراته وإشاراته؛ لاحتراقه فى نفسه وتحقّقه بما يجرى من دقائق الأسرار.
هذه الجملة نبذ مما عهدناه منه إلى انتهاء أجله، فأدركه قضاء الله الذى لابد منه، بعد ما مرض قبل ذلك مرض اليرقان، وبقى به أياما ثم برأ منه وعاد إلى الدّرس والمجلس، وأظهر الناس من الخواصّ والعوامّ السرور بصحّته وإقباله من علّته، فبعد ذلك بعهد قريب مرض المرضة التى توفّىّ فيها، وبقى فيها أياما، وغلبت عليه الحرارة التى كانت تدور فى طبعه، إلى ضعف وحمل إلى بشتنقان؛ لاعتدال الهواء وخفّة الماء، فزاد الضعف وبدت عليه مخايل الموت، وتوفّى ليلة الأربعاء بعد صلاة العتمة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونقل فى الليلة إلى البلد، وقام الصّياح من كل جانب، وجزع الفرق عليه جزعا لم يعهد مثله، وحمل بين الصلاتين من يوم الأربعاء إلى ميدان الحسين، ولم تفتح الأبواب فى البلد، ووضعت المناديل عن الرؤس عاما، بحيث ما اجترا أحد على ستر رأسه، من الرؤس والكبار.
وصلّى عليه ابنه الإمام أبو القاسم بعد جهد جهيد، حتى حمل إلى داره من شدة الزحمة وقت التّطفيل، ودفن فى داره، وبعد سنين نقل إلى مقبرة الحسين.
وكسر منيره فى الجامع المنيعىّ، وقعد الناس للعزاء أياما عزاء عامّا، وأكثر الشعراء المراثى فيه.
وكان الطلبة قريبا من أربعمائة نفر، يطوفون فى البلد نائحين عليه، مكسّرين المحابر والأقلام، مبالغين فى الصياح والجزع.