للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أبو عمر بن عبد البر يقال لمن قال بالتقليد. لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله صلى الله عليه لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني.

قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من كتاب أو حكاية عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟ فإن قال قلدته لأني أعلم أنه على صواب. قيل له علمت ذلك من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع؟ فإن قال نعم أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني، قيل له فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له فهو إذاً أعلم من الصحابة فكفى بقول مثل هذا قبحاً،١.

"فإن قال أنا أقلد بعض الصحابة، قيل له فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟ على أن القول لا يصح بفضل قائله وإنما بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مدين عن عيسى بن دينار عن القاسم عن مالك قال ليس كلما قال الرجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه لقوله عز وجل {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .

فإن قال قصري وقلة علمي تحملني على التقليد، قيل له أما من قلد فيما ينزل به أحكام شرعية عالماً يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره به فمعذور لأنه قد أتى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولابد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك، ولكن من كانت هذه حاله هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة وكفى بذلك جهلاً ورداً للقرآن قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يستقين فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئاً".

ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه "من أفتى بفتيا وهو يعمي عنها كان


١ إنه على قبحه بمخالفة إمامه وسائر الأئمة على تفضيل الصحابة على أنفسهم باطل بالبداهة فإن المجتهد لا يمكنه أن يعرف أعلم الناس على الإطلاق فضلاً عن المقلد الذي لا يعرف أدلة أحد منهم.

<<  <   >  >>