وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَ تَشْرِيعِ الدِّيَةِ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ من ربكم ورحمة} وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا ثم نسخ كنسخه التوجه إلى بيت الْمُقَدَّسِ بِالْكَعْبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْنَا مِنْ قَضِيَّةِ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَكَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ
الثَّالِثُ: مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ إيجاب لذلك وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نسء كما قال تعالى: {أو ننسئها} فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ أَبَدًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأضاحي من أجل الرأفة ثُمَّ وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَنْسُوخًا بَلْ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْحُكْمِ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ حتى لو فاجأ أَهْلَ نَاحِيَةٍ جَمَاعَةٌ مَضْرُورُونَ تَعَلَّقَ بِأَهْلِهَا النَّهْيُ
ومن هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الْآيَةَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَلَمَّا قَوِيَ الْحَالُ وَجَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنكر
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute