لحساب فكرة متجسدة تجسّداً تصبح معه أقرب إليه منالاً، لأنه يمكنه مقاومتها إما بوسائل القوة أو بوسائل الإغراء.
على أن الاستعمار لن يسلك هذا الطريق فقط، بل إنه سوف يواصل في الوقت نفسه حربه ضد الفكرة المجردة بوسائل ملائمة فيها أكثر مرونة، ويستعين من أجل ذلك بخريطة نفسية العالم الإسلامي: وهي خريطة تجري عليها التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها رجال متخصصون مكلفون برصد الأفكار؛ إنه يرسم خططه الحربية ويعطي توجيهاته العملية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمرة، معرفة تسوغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد حسب مختلف مستوياته وطبقاته، إنه يستخدم لغة ((الفكرة المتجسدة في مستوى الطبقة المثقفة، فيقدم للمثقفين شعارات سياسية تسد منافذ إدراكهم إزاء الفكرة المجردة)).
وفي مستوى آخر تراء يفضل لغة الدين، لأنها تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة، في هذا المستوى.
غير أننا في مستوى أدنى درجة نراه يستغل جهل الجماهير، لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع، وهكذا حتى يصل إلى أحط مستوى يستخدم سلاح المال، إذ يكون لنفسه بهذه الوسيلة صداقات، أو كما يعبرون بلغة الحرب اتفاقات في البلاد المستعمَرة، تساعده على توجيه هجمات محكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجهة الفكرية.
ثم يزيد في إتقان خطته، فتراه يسدل ظلاماً شاملاً على تلك الجبهة كي يعزلها عن ضمير الشعب المستعمر نفسه وعن الضمير العالمي.
وبهذا يصبح وضع الأشياء وكأننا في قاعة غارقة في الضوء، بينما يبقى المسرح ذاته غارقاً في الظلام.