هذه هي الصورة العامة لتجربة معينة خصصنا لها هذا الفصل، كي نبين للقارئ أن الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، يجدد بجانب من جوانبه وبصورة ما، الأسطورة الشهيرة التي يصف فيها أفلاطون، بطريقة رمزية الحالة الغريبة التي يكون عليها بعض الناس، حينما يتصورون الواقع، حسبها يصور لهم لا طبقاً لحقيقته؛ فهم يعيشون في نظر الفيلسوف العتيق، في قعر غار، ملتفتين إلى جدرانه قهراً، فلا يرون سوى الأشباح المتحركة عليه دون أن يفكروا أنها الأشخاص يأتون ويذهبون وراء ظهورهم، وأن ناراً أوقدت بين باب الغار وأولئك الأشخاص هي التي تلقي ظلهم في صورة أشباح متحركة على الجدران، ودون أن يشعروا خاصة، أن الحقيقة ليست في تلك الصور الوهمية، ولا في النار التي تصورها لأبصارهم المسحورة، بل هي خارج الغار، في ضوء النهار، تحت الشمس الساطعة ...
ولو عاش أفلاطون في زماننا لأتيحت له الفرصة أن يضيف لأسطورته صوتاً يتخافت ويهمس همساً: صوت الملقن أو المفسر الذي يدلي بالتفسيرات، أو بوجه أدق يدلي بالإيحاءات المناسبة لأصحاب الغار ليزيد في خبالهم خبالاً.
ويكون بذلك وصف حالتنا حينما يبدي لنا الاستعمار ما يريد من الصور الوهمية، ويصف لنا الأشياء كيفما يريد بصوت المتخافت. ومهما يكن من الأمر فإننا نستفيد مما قدمنا، أن الاستعمار إذا حاول وخاب مرة أولى، وثانية وثالثة إلخ فإنه مستمر على الرغم من ذلك في طريقه، مصرّ على خططه ...
وقد نعجب من هذا ونتساءل لماذا يصر؟
والجواب هو أن الاستعمار يعلم بكل تأكيد، أن الرجل الذي دخل المعركة هكذا، في جبهة الصراع الفكري، ليس بيده كل ما يتمنى من وسائل الدفاع، وأن ردود أفعاله ستكون محدودة بالضرورة، والظروف السياسية ذاتها قد تحدها