أفلا ينتج عن هذا أن العمل الصغير التافة هو أشد ما يعترض الجنس البشريّ كله، وأن العقل يقوى على حلِّ أعظم المسائل وأشدها تعقيدًا وضخامةً، ولكنه يعجز عن مقاومة المشكلات الصغيرة التافهة؟
نعم، سنتمكن في آخر الأمر من إبادة الناموس، والذباب، وسائر الهوام الجالية للأمراض، وإذ ذاك نبدأ عراكًا من نوعٍ آخر نقاتل فيه الميكروبات، والجراثيم، والأشياء غير المنظورة، ونقاتل فيه ميكروبات الأمراض التي كان الناموس ينقلها، ويوصل أذاها إلينا، وهو عراك عنيف طويل, لا بد لنا من الفوز فيه بطريقةٍ أو بأخرى.
ولكن العبرة التي أسوق إليها القارئ من كل ذلك, هي أن الإنسان يجد مثل هذا العناء في المعارك الخلقية، والمعنوية التي تصادفه في حياته، فأصغر الأعداء فيها يحتاج إلى وقت طويل، وصبر أطول بما يحتاج إليه الإنسان في التغلب على أعظم الأعداء، وأقوى الأقوياء.
إنني أعتقد أننا لا نزال في دور الهمجية من حيث الأخلاق، والمعنويات، فنحن لا نزال نحارب جرائم القتل، وإحراق البيوت والزرع، ونحارب السرقة، وغيرها من الجرائم الكبيرة والعيوب الضخمة، وكما كان ساكن الكهوف يحارب الماموث، فنحن الآن نحارب هذه الوحوش الأخلاقية الشرسة الضخمة، وستزول هذه الوحوش الأخلاقية يومًا ما، وتتلاشى من الوجود، فلايرتكب الناس القتل، ولا يقترفون السرقة؛ إذ لا تكون هناك حاجة يومئذ إلى القتل، أو إلى السرقة متى أعيد تنظيم المجتمع على أسس أخرى!
عند ذلك فقط, نعود إلى محاربة المتاعب الخلقية والمعنوية الصغرى من حيث الإثم، والكبرى من حيث الخطر والفتك بالجنس البشرىّ, ونريد بهذه المتاعب الكثيرة، أو المخلوقات المعنوية الدقيقة: الرياء، والغطرسة، والأنانية، وحب الذات، وانعدام الرغبة في الإحسان،