وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ: سُئِلَ بُنْدَارٌ الْفَارِسِيُّ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ؟ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ فِيهِ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ وَمُعْجِزَةً لِمُحَاوَلِهِ وَهُدًى لِقَائِلِهِ وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ علماء النظر إلى أن وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا وَصَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ.
قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَاتِ الْبَيَانِ متفاوتة فمنهما الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الغريب السَّهْلُ وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ وَهَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ فَالْأَوَّلُ أَعْلَاهَا وَالثَّانِي أَوْسَطُهَا وَالثَّالِثُ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً وَأَخَذَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً فَانْتَظَمَ لَهَا بِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ وَالْجَزَالَةَ وَالْمَتَانَةَ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الزُّعُورَةِ فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute