للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما أحاديث أهل الشام؛ فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء، ولم يكن منهم -يعني أهل المدينة، ومكة، والبصرة، والشام- من يعرف بالكذب، لكن منهم من يضبط، ومنهم من لا يضبط.

وأما أهل الكوفة؛ فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم، ففي زمن التابعين كان بها خلق كثير منهم معروفون بالكذب، لاسيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذباً باتفاق أهل العلم، ولأَجْلِ هذا يُذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذّابين، ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب، فأما إذا عَلِمُوا صِدْقَ الحديث فإنهم يحتجون به. كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي، فقيل له ذلك. فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا.

وهذا القول هو القول القديم للشافعي، حتى روي أنه قيل له: إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثاً ألا يحتج به؟ فقال: إن يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا. ثم إن الشافعي رجع عن ذلك، وقال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه، شامياً كان أو بصرياً أو كوفياً. ولم يقل مكياً أو مدنياً لأنه كان يحتج بهذا قبل.

وأما علماء أهل الحديث كشعبة، ويحيى بن سعيد، وأصحاب الصحيح والسنن؛ فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم ممن بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم، وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز، ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي، وشريح القاضي. ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم، فلهذا صار علماء الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان. وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من

<<  <  ج: ص:  >  >>