للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لمَّا حَكَى عن العواذِلِ أنَّهم قالوا: "هُوَ في غَمْرَةٍ"، وكان ذلك مما يحرِّك السامعَ لأنَّ يسألهَ فيقولَ: "فما قولُكَ في ذلكَ، وما جوابُك عَنْه؟ "، أَخْرَجَ الكلامَ مُخْرَجَهُ إِذا كان ذلكَ قَدْ قِيل له، وصارَ كأنَّه قال: "أقول: صَدَقُوا، أنَّا كما قالوا، ولكنْ لا مَطْمَعَ لهم في فلاحِي"، ولو قالَ: "زعمَ العواذلُ أنني في غَمْرةٍ وصَدَقُوا"، لكانَ يكون لم يصنع في نفسه أنه مسئول١، وأن كلامَه كلامُ مجيبٍ.

٢٦٧ - ومثْلُه قولُ الآخَرِ في الحماسة:

زَعَمَ العَواذِل أنَّ ناقَةَ جُنْدَبٍ ... بجَنوبِ خَبْتٍ عُرّيَتْ وأُجِمَّتِ

كَذَبَ العَواذِلُ لو رأَيْنَ مُنَاخَنا ... بالقادسية فلن لج نووذلت٢

وقد زادَ هذا أمرَ القطعِ والاستئنافِ وتقديرَ الجواب، تأكيد بأنْ وضَعَ الظاهِرَ موضعَ المُضْمر، فقال: "كذَب العواذلُ": ولم يَقُلْ "كَذَبْنَ"، وذلك أنَّه لمَا أعادَ ذِكْرَ "العواذلِ" ظاهراً، كان ذلك أَبْيَنَ وأقوىَ، لكونِه كلاماً مستأَنفاً مِنْ حَيْثُ وَضَعَه وضعًا لا يحتاج فيه إل ىما قبله، وأتى به مأتَى ما لَيْس قبلَه كلامٌ.

٢٦٨ - وممَّا هُوَ على ذلك قول الآخر:

زعمتم إن إخوانكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف٣


١ في المطبوعة وحدها: "لم يصح في نفسه".
٢ هو في شرح الحماسة للتبريزي ١: ١٦٢، ـ و "جندب"، هو الشاعر، ونسبه في معاهد التنصيص ١: ٣٩٢، وقال "جندب بن عمار". و "خبت" ماء لكلب. و "عريت" الناقة من رحلها. و "أجمت"، أريحت من الركوب والسير. و "لج" جندب في السير والتابعد، و "ذلت" الناقة من طول السفر.
٣ شعر مساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، يهجو بني أسد شرح الحماسة للتبريزي ٤: ١٢، وكان مساور يهاجي المرار بن سعيد الفقعسي الأسدي، "أسد" هو "أسد بن خزيمة ابن مدركة"، وقريش من ولد أخيه كنانة بن خزيمة بن مدكة، فمن هنا وغيره قالت بنو أسد: نحو إخوةى قريش، فكذبهم مساور بن هند، وقال: لقريش رحلة الشتاء والصيف، وهي "الإلاف"، وليس لكم مثله، وبعد البيت:
أولئك أومنوا جوعًا وخوفًا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا