للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بمقتضى ما رأيتَ من الفَرْق. أفَلاَ تَرى أنك لو جئتَ بحرْفِ نَفي يُتَصوَّر انفصالُه عن الفعلِ، لرأيتَ المعنى في "كل" مع تَرْكِ إِعمالِ الفعلِ، مِثْلَه مع إعمالِه، ومثالُ ذلكَ قوله:

ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدرِكُه١

وقولُ الآخر:

ما كلُّ رَأْي الفتى يَدْعو إِلى رَشَد٢

"كلٌ" كما ترى غيرُ مُعْمَلٍ فيه الفعلُ، ومرفوعٌ، إِما بالابتداءِ، وإِما بأنه اسمُ "ما"، ثم إِنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملْتَ فيه الفعلَ فقلتَ: "ما يُدرِكُ المرءُ كلَّ ما يتمناه"، و "ما يدعو كلُّ رأيِ الفتى إِلى رَشَد"، وذلك أن التأثيرَ لوقوعِه في حيِّز النفي، وذلك حاصلٌ في الحالين. ولو قدَّمْتَ "كلاّ" في هذا فقلت: "كلُّ ما يتمنى المرءُ لا يدركه" و "كل رأي الفتى لا يدعو إِلى رَشَد" لتغيَّرَ المعنى، ولصارَ بمنزلةِ أنْ يقالَ: "إنَّ المرءَ لا يدرك شيئًا مما يتمناه"، و "لا يكونُ في رأيِ الفتى ما يدعو إِلى رَشَدٍ بوجْهٍ من الوجوه".

٣٣٣ - واعلمْ أنَّكَ إِذا أدخلْتَ "كلاّ" في حيِّز النفي، وذلك بأن تُقدِّم النفيَ عليه لفظاً أو تقديراً، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل


١ هو شعر المتنبي في ديوانه، وعجزه:
تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن
٢ ذكره ابن هشام في مغني اللبيب في "باب كل"، وذكره غيره من النحاة، وكأنهم أخذوه، من عبد القاهر ولا يعرف تمامه.