للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيه وكثيرِه، وأنْ ليس إلاَّ أنْ تَعلمَ أنَّ هذا التقديمَ وهذا التنكيرَ، أو هذا العطْفَ أو هذا الفصْلَ حسَنٌ، وأنَّ له موقعاً من النفسِ وحظَّا من القَبول، فأمَّا أنْ تَعلم لمَ كان كذلك؟ وما السَّبَبُ؟ فَمِمَّا لا سبيلَ إِليه، ولا مطمعَ في الاطِّلاعِ عليه، فهو بتوانِيهِ والكَسل فيه، في حُكْم مَنْ قالَ ذلك.

٣٤٦ - واعلمْ أنه ليسَ إذا لم تمكن معرفةُ الكلِّ، وجَبَ تركُ النظرِ في الكلِّ. وأنْ تعرفَ العلَّةَ والسببَ فيما يُمْكِنك معرفةُ ذلك فيه وإِنْ قلَّ فتجعلَه شاهداً فيما لم تَعْرِفْ١، أحْرَى مِن أنْ تَسُدَّ بابَ المعرفة على نفسِك، وتأْخذَها عن الفهم والتفهُّم، وتعوِّدَها الكسَل والْهُوَيْنا. قال الجاحظُ:

"وكلامٌ كثيرٌ قد جَرى على ألسنةِ الناس، وله مَضَرّةٌ شديدةٌ وثمرةٌ مُرَّةٌ. فمِنْ أَضَرَّ ذلك قولُهم: "لم يَدَع الأولُ للآخِرِ شَيئاً قال: فلو أنَّ علماءَ كلِّ عصر مذجرت هذه الكلمةُ في أسمْاعهم، ترَكُوا الاستنباطَ لِمَا لَمْ يَنتهِ إِليهم عَمَّن قَبْلَهم، لرأيتَ العِلم مُختلاًّ. واعلمْ أنَّ العلمَ إِنما هو معدِنٌ٢، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وِقْرِ قد أُخرجَتْ من معدنِ تبْرٍ٣، أنْ تطلُبَ فيه، وأن تأخُذَ ما تَجد ولو كَقَدْرِ تُومةٍ٤، كذلكَ، ينبغي أن يكون رأيْكَ في طلبِ العلمِ"٥. ومنَ الله تعالى نَسألُ التوفيق.


١ "وأن تعرف العلة"، يعني "معرفتك العلة .... أحرى من النار تسد باب المعرفة".
٢ المعدن" هو الموضع الذي تستخرج منه جواهر الأرض كالذهب والفضة، وهو الذي نسميه اليوم المنجم".
٣ في المطبوعة وحدها: "ألف وقر" و "الوفر" بكسر فسكون، جمل ما يحمله البعير أو البغل. و "التبر"، الذهب.
٤ "التومة"، حبة تعمل من الفضة كالدرة مستديرة.
٥ نص الجاحظ هذا، أعيان أن أقف عليه في كتبه التي بين يدي الآن.