للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُريد إذا كان العامُ عامَ جَدْب وجفَّت ضروعُ الإبل، وانقطع الدَّرُّ، حتى إن حلَبَ منها مئةٌ لم يَحْصل من لبنها ما يكونُ غَبُوقَ غلامٍ واحدٍ. فالفعلُ الذي هو "غبَق" مستعملٌ في نفسه على حقيقته، غيرَ مخرج من معناهُ وأصْلِه إلى معنى شيءٍ آخر، فيكونُ قد دخلَه مجازٌ في نفسِه، وإنما المجازُ في أن أُسنِد إلى الإِبلِ وجُعِل فِعْلاً لها، وإسنادُ الفعلِ إلى الشيءِ حُكْم في الفعلِ، وليس هو نفسَ معنى الفعلِ، فاعرفْه.

ليس كل شيء يصلح للمجاز الحكمي بسهولة، ومثال ذلك:

٣٥٥ - واعلمْ أنَّ مِن سبَب اللطفِ في ذلك أنَّه ليس كلُّ شيء يَصْلُح لأن يُتعاطى فيه هذا المجازُ الحُكْمي بسهولةٍ، بل تَجدُك في كثيرٍ من الأمر، وأنتَ تحتاجُ إلى أن تُهيِّئَ الشيءَ وتصلِحَه لذلك، بشيءٍ تتوخاه في النظْم. وإنْ أرَدْت مثالاً في ذلك فانظْر إلى قوله:

تناسَ طِلابَ العامِريَّة إذْ نأتْ ... بأسْجَحَ مِرْقالِ الضُّحَى قَلقِ الضَّفْرِ

إذا ما أحسَّتْهُ الأفاعي تحيَّزتْ ... شواةُ الأفاعي مِنْ مُثَلَّمةٍ سُمْرِ

تجوبُ له الظَّلْماءَ عينٌ كأنَّها ... زجاجةُ شَرْبٍ غيرُ مَلأى ولا صِفْرِ١

يَصِفُ جَملاً، ويريد أنه يهتديَ بنورِ عينِه في الظلْماءِ، ويُمكنه بها أن يَخْرُقَها ويمضيَ فيها، ولولاها لكانتِ الظلماءُ كالسدِّ والحاجزِ الذي لا يجد شيئًا


١ "أسجح"، يعني خده، قليل اللحم سهل طويل، يعني بعيرًا. و "مرقال الضحى"، كثيرة الإرقال. وهو سرعة السير، و "فلق الضفر"، وهو ما شددت به البعير من الشعر المضفور، وقلق لضمره من طول السير. و "تحيزت الأفعى، وتحوزت، وانحازت"، تلوت وتقبضت وتحرقت. و "شواة الأفعى" يعني جلدها. و "المثلمة" التي انسكر حرفها، يعني مناسم البعير.