للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصل:

فصل دقيق في "الكناية"، وإثبات الصفة عن طريقها، وأمثلة ذلك:

٣٦٢ - هذا فنٌّ من القول دقيق المسلك، لطيفُ المأخذ، وهو أَنَّا نراهم كما يصنعون في نفسِ الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكنايةِ والتعريضِ، كذلك يذهبون في إِثباتِ الصفة هذا المذهبَ. وإذا فعلوا ذلك، بدتْ هناك محاسنُ تملأ الطرْفَ. وَدقائقُ تُعجزُ الوصفَ، ورأيتَ هنالك شعراً شاعراً، وسحْراً ساحراً، وبلاغةً لا يكمل لها إلا الشاعرُ المُفْلِق، والخطيبُ المِصْقَع. وكما أنَّ الصفةَ إذا لم تأتِكَ مُصرَّحاً بذِكْرها، مكشوفاً عن وجهها، ولكن مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفخمَ لشأنها، وألطفَ لمكانِها، وكذلك إثباتك الصفة للشيء ثبتها له، إِذا لم تُلْقِه إلى السامع صريحاً، وجئتَ إليه من جانبِ التعريضِ والكنايةِ والرمزِ والإِشارة، كان له من الفضلَ والمزيَّة، ومن الحسْن والرونق، ما لا يقلُّ قليلُه، ولا يُجْهَلُ موضِعُ الفضيلةِ فيه.

٣٦٣ - وتفسيرُ هذه الجملةِ وشرحُها: أنهم يرومون وصْفَ الرجل ومدْحَه، وإثباتَ معنًى من المعاني الشريفةِ له، فيَدَعونَ التصْريحَ بذلك، ويُكَنُّونَ عن جَعْلها فيه بِجَعْلها في شيءٍ يَشْتمِلُ عليه وَيتَلبَّس به، ويتوصَّلون في الجملة إلى ما أَرادوا من الإِثباتِ، لا من الجهةِ الظاهرةِ المعروفةِ، بل من طريقٍ يَخْفى، ومَسْلكٍ يَدِقُّ؟ ومثالُه قولُ زيادٍ الأعجمِ:

إنَّ السَّماحَةَ والمُروءةُ والنَّدَى ... في قُبَّةِ ضُرِبَتْ على ابْنِ الحَشْرجِ١


١ الشعر في الأغاني ١٥: ٣٨٦ "الدار"، وكان زياد الأعجم نزل على عبد الله بن الحشرج وهو باسبور، فأنزله وألطفه. وفي هامش المخطوطة "ج" ما نصه: وبعده.
ملكٌ أغَرُّ مُتَوَّجٌ ذُو نائِلٍ ... للمُعْتَفِيْنَ، يَمِيْنهُ لَم تَشْنَجِ
يا خَيْرَ من صَعِدَ المنابِرَ بالتُّقى ... بعدَ النَّبِيِّ المُصْطفى المُتَحَرِّجِ
لمَّا أَتَيْتُكَ رَاجِياً لِنَوالِكُمْ ... أَلفَيْتُ بَابَ نوالِكُمْ لَمْ يرتج