٤٣٩ - يدلك على ذلك أن تقول:"جعله أسدًا" و "جعله بدرًا" و "جعله بحْرا"، فلو لم يكنِ القصْد بها إلى المعنى، لم يكنْ لهذا الكلام وَجْهٌ، لأنَّ "جعَل" لا تصْلح إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفة للشيء، كقولنا:"جعلته أميرًا" و "جعلته واحدَ دهره"، تُريد أثبتُّ له ذلك. وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى مفعولين حكْمُ "صَيَّر"، فكما لا تقول:"صيَّرْته أميراً"، إلا على معنى أنك أثبَتَّ له صفةَ الإِمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقولَ:"جعلته أسداً"، إلا على معنى أنك جعلتَه في معنى الأسد ولا يقال:"جعلتُه زيداً"، بمعنى "سمَّيْتُه زيداً"، ولا يقال للرجل:"إجْعَل ابنَك زيداً" بمعنى: "سمِّه زَيْدا" و "وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فَجَعله زيداً"، وإنما يَدخُل الغَلطُ في ذلك على من لا يحصل١.
بيان في قوله:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}
٤٤٠ - فأما قولُه تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}[الزخرف: ١٩]، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، وذلك أنَّ المعنى على أنهم أثْبَتوا للملائكةِ صفةَ "الإِناث"، واعتقدوا وُجودَها فيهم. وعن هذا الاعتقادِ صدرَ عنهم ما صدَر من الاسْم، أعني إطلاقَ اسْمِ "البنات"، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ "الإناثِ" أو لفظَ "البناتِ" اسْماً من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. وهذا محال لا يقوله له عاقلٌ. أَما تَسْمَعُ قولَ الله تعالى:{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلون}[الزخرف: ١٩] فإنْ كانوا لم يزيدوا على أنْ أجرَوْا الاسْم على الملائكةِ ولم يَعْتقدوا إثباتَ صفةٍ ومعنىً بإجرائه عليهم، فأيُّ معنىً لأنْ يقال:"أشْهدوا خَلْقَهم"؟ هذا، ولو كانوا
١ انظر ما سيقوله في معاني "جعل" فيما سيأتي رقم: ٥٠٧، ٥٠٨.