يَرتَكِبوا ذلك، وأن يتعلقوا فيه، بما في العادة ومَجْرى الجِبِلَّة منْ أنَّ الإِنسانَ يخيل إليه إذا هو فكر، أنه كأنه ينطِقُ في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها، حتى يرى أنه يسمعُها سماعَه لها حين يُخرِجُها مِنْ فيهِ، وحين يَجري بها اللسانُ.
وهذا تجاهلٌ، لأنَّ سبيلَ ذلك سبيلُ إنسانٍ يتخيَّل دائماً في الشيء قد رآه وشاهدَه أنه كأنَّه يرَاه وينظُرُ إليه، وأنَّ مِثالَهُ نُصْبُ عَيْنه، فكَما لا يوجِبُ هذا أنْ يكونَ رائياً له، وأنْ يكُون الشيءُ موجوداً في نفسه، كذلك لا يكون تخيله أنه كأنه ينطق بالألفاظ، موجبًا أن كون ناطقاً بها، وأنْ تكونَ موجودةً في نفسه، حتى يَجْعلَ ذلك سببًَا إِلى جعل الفِكْرِ فيها.
فكر الإنسان، هل هو فكر في الألفاظ وحدها؟ أم هو فكر في الألفاظ والمعاني معا؟:
٤٩٠ - ثم إنا نَعْمل على أنه يَنْطِق بالألفاظِ في نفْسِه، وأنه يَجِدُها فيها على الحقيقة، فَمِنْ أينَ لنا أنه إذا فكَّر كان الفكر منه فيها؟ أماذا يَرومُ، ليتَ شِعْري، بذلك الفِكْرِ؟ ومعْلومٌ أنَّ الفِكْرَ من الإنسانِ يكونُ في أنْ يُخْبِرَ عن شيءٍ بشيءٍ، أو يَصِفَ شيئاً بشيءٍ، أو يُضيف شيئاً إلى شيءٍ، أو يُشْرِكَ شيئاً في حكْم شيءٍ، أو يُخْرِجَ شيئاً من حكْمٍ قد سبَق منه لشيء، أو يَجْعلَ وجُودَ شيءٍ شرطاً في وجودِ شيء، وعَلَى هذا السبيلُ؟ وهذا كلُّه فِكْرٌ في امور معقولةٍ زائدة على اللفظ١.
٤٩١ - وإِذا كان هذا كذلك، لم يحل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكر مِنْ أحَدِ أمرَيْن: إمَّا أن يُخرجَ هذهِ المعانيَ مِنْ أنْ يكونَ لواضعِ الكلامِ فيها فكْرٌ ويجعلَ الفِكْرَ كلَّه في الألفاظِ وإمَّا أن يجعل فكْرا في اللفظِ مفرداً عن الفكرْة في هذه المعاني. فإنْ ذَهب إِلى الأوَّل لم يكلم، وإن ذهب إلى الثاني لزمه
١ في المطبوعة: "أمور معلومة معقولة"، زاد ما لا خير فيه.