بَيانُ هذا، أَنَّا نَعْلم أَنَّك لا تقولُ، "رأيتُ أسداً"، إِلاَّ وغَرضُكَ أَن تُثْبِتَ للرجُل أَنه مساوٍ للأَسد في شجاعته وجُرْأته، وشدَّة بطْشه وإقدامه، وفي أنَّ الذعْرَ لا يُخامرُه، والخوف لا يعرف له. ثم تَعْلم أَنَّ السامعَ إِذا عَقَل هذا المعنى لم يَعقِلْه من لفظِ "أسَد"، ولكنَّه يَعقِلُه من معناه، وهو أنه يَعْلم أَنه لا معنى لجعله "أسداً"، مع العلم بأنه "رجُل" إلاَّ أنك أردْتَ أنه بلغَ من شدة مشابهته للأسد وماواته إِياه، مبْلغاً يُتَوهَّم معه أَنه أَسدٌ بالحقيقة، فاعرفْ هذه الجملة وأحسن تأملها.
الاستعارة، يراد بها المبالغة لا نقل اللفظ عما وضع له في اللغة:
٥٠٨ - واعلمْ أَنكَ تَرى الناسَ وكأنهم يرَوْن أَنك إِذا قلتَ:"رأيتُ أسَداً"، وأنتَ تُريد التشبيهَ، كنتَ نقلْتَ لفْظَ "أسدٍ" عما وُضع له في اللغة، واستعملْتَه في معنى غيرِ معناه، حتى كأنْ ليس "الاستعارةُ" إلاَّ أن تَعْمدَ إِلى اسْم الشيءِ فتجعلَه اسماً لشبيههِ، وحتى كأن لا فصل بين "الاستعارة"، وبين تسمة المطرِ "سماءً"، والنَّبتِ "غيثاً"، والمزادةِ "راوية"، وأشباهِ ذلك مما يوقع فيه اسم الشء على ما هو منه بسبَبٍ، ويَذْهبون عمَّا هو مركوزٌ في الطِّباع من أنَّ المعنى فيه المبالَغةُ١، وأَنْ يُدَّعى في الرجُل أَنه ليسَ برجُل، ولكنه أَسدٌ بالحقيقة، وأَنه إِنما يُعار اللفظُ مِنْ بَعْد أنْ يعارَ المعنى، وأَنه لا يُشْرَكُ في اسم "الأسدِ"، إلاَّ مِنْ بَعْد أن يُدْخَل في جنس الأَسدِ. لا تَرى أحداً يَعْقِل إِلاَّ وهُو يَعْرفِ ذَلك إِذا رجعَ إِلى نفسه أدنى رُجوعٍ.
ومِن أجْل أَنْ كانَ الأمرُ كذلك، رأيتَ العقلاءَ كلَّهم يُثْبِتون القولَ بأنَّ مِن شأْنِ "الاستعارةِ" أن تكونَ أبداً أَبلغَ من الحقيقة، وإِلا فإن كان ليس