للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وذلك أنا لو لم نَقْلْ ذلك، لم يَكُنْ "لجُعِلَ" ههنا معنى، لأنَّ "جعل" لا يَصْلُحُ إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفةٍ للشيء، كقولِنا: "جعلْتُه أميراً" و "جلعته لِصّاً" تريدُ أنَّك أثبَتَّ له الإِمارة، ونسبْتَه إلى اللصوصيَّة وادَّعَيْتَها عليه ورمَيْتَه بها.

وحكْمُ "جعَل"١، إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكْمُ "صَيَّر"، فكما لا تقول" صيَّرْته أميراً"، إلا على معنى أنك أثبَتَّ له صفةَ الإِمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقولَ: "جعلته أسداً"، إلا على معنى أنك أثبت له المعنى الأسد٢. وأمَّا ما تَجدُه في بعضِ كلامِهم من أن "جَعَل" يكونُ بمعنى "سَمَى"، فمما تَسامحوا فيه أيضاً، لأنَّ المعنى معلومٌ، وهو مثْلُ أن تَجِدَ الرجُلَ يقولُ: "أنا لا أسَمِّيه إنساناً"، وغرضُه أن يقولَ: إني لا أُثْبِتُ له المعانيَ التي بها كان الإِنسان إنساناً، فأما أن يكون "جعل" في معنى "سمَّى"، هكذا غُفلاً، فمما لا يخفى فسادُه. ألاَ تَرى أنك لا تَجِدُ عاقِلاً يقول: "جعلتُه زيداً"، بمعنى: سمَّيْتُه زيداً ولا يقال للرجل: "إجْعَل ابنَك زيداً"، بمعنى: سمِّه زَيْدا و "وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فجعَلَه عبدَ الله"، أي: سمَّاه عبدَ الله٣. هذا مَا لا يَشُكُّ فيه ذو عقلٍ إذا نَظَر.

٥١٦ - وأكثَرُ ما يكون منهم هذا التسامحُ، أعني قولَهم إنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ


١ قد سلف كلامه في "جعل" في رقم: ٤٣٨ - ٤٤٠.
٢ أسقط كاتب "ج" من أول "صفة الإمارة" إلى قوله هنا: "أثبت له" سهوًا، ففسد الكلام.
٣ قد مضى الكلام في معاني "جعل"، فيما سلف رقم: ٤٣٨ - ٤٤٠.