للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذاك أنه ليس ههنا شيءٌ يَزْعمُ أَنَّه شبَّهَهُ باليد، حتى يكونَ لفظُ "اليد" مستعاراً له، وكذلك ليس فيه شيءٌ يُتَوهَّمُ أن يكونَ قد شبَّهه بالزِّمام، وإنما المعنى على أنه شبَّه "الشَّمالَ" في تصريفها "الغداةَ" على طبيعتها، بالإنسانِ يكون زمامُ البعيرِ في يَدِه، فهو يُصَرِّفُه على إرادته، ولمَّا أرادَ ذلك جَعَل للشَّمالِ يداً، وعلى الغداة زماماً. وقد شرحْتُ هذا قبْلُ شرْحاً شافياً١.

٥٤٥ - وليس هذا الضربُ من الاستعارة بدُون الضربِ الأولِ في إيجابِ وصْفِ "الفصاحةِ" للكلام، لا بَلْ هو أَقوى منه فيِ اقتضائها. والمَحاسِنُ التي تَظهرُ به، والصورُ التي تَحْدثُ للمعاني بسببه، آنقُ وأعجبُ. وإنْ أردتَ أن تَزْداد عِلماً بالذي ذكرتُ لكَ من أمرِهِ، فانظرْ إلى قوله:

سقته كف الليل أكواس الكَرى٢

وذلك أنَه ليس يَخْفى على عاقلٍ أنه لم يُرد أن يُشبِّه شيئاً بالكفِّ، ولا أراد ذلك في "الأكواس" ولكن لما كان يقال: "سكر الكرى" و "سكر النوم"، استعار للكرى "الأكواس"، كما استعار الآخَرُ "الكأْسَ" في قوله:

وقد سَقَى القومَ كأسَ النعسةِ السَّهَرُ٣

ثم إنه لمَّا كان الكَرى يكونُ في الليل، جعلَ الليلَ ساقياً، ولمَّا جَعلَه ساقياً جعلَ له كفًا، إذا كان الساقي يناول الكأس بالكف.


١ انظر ما سلف، الفقرة رقم: ٥١٢.
٢ لم أعرف قائله. وهكذا هو "ج" و "س"، والمطبوعة هنا، وفيما سيأتي، وهو بلا شك جمع "كأس"، وكأنه سهل الهمزة ثم جمع "كاسًا" على "أكواس".
٣ الشعر لأبي دهبل الجمحي، وهو في ديوانه، وروايته: "كأس النشوة"، وصدر البيت:
أقول والركب قد مالت عمائمهم