للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهكذا يكون الأمرُ أبداً، كلَما زدتَ شيئاً، وجدتَ المعنى قد صارَ غير الذي كان. ومن أجلِ ذلكَ صَلُح المجازاةُ بالفعل الواحد، إذا أتى به مطلقًا في الشطر، ومعدى إلى شيء في الجزاء، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: ٧]، وقولِه عزَّ وجل: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِين} [الشعراء: ١٣٠]، مع العلم بأن الشرطَ ينبغي أن يكونَ غيرَ الجزاء، من حيثُ كان الشرطُ سبباً والجزاءُ مسبِّباً، وأنه محال أن يكونَ الشيء سبباً لنفسِه. فلولا أن المعنى في "أحسنتُم" الثانية، غيرُ المعنى في الأولى، وأَنها في حكيم فعلٍ ثانٍ، لما سَاغ ذلك، كما لا يسوغ أن تقول: "إنْ قمتُ قمتَ، وإن خرجتُ خرجتَ"، ومثلُه من الكلام قولُه: "المرءُ بأصغريه، أن قال قال بيان، وإن صالَ صالَ بجَنانٍ"١، ويجري ذلك في الفعلين قد عُدِّيا جميعاً، إلا أن الثاني منهما قد تعدى إلى شيء زاد على ما تعدَّى إليه الأول، ومثالهُ قولُك: "إن أتاك زيدٌ أتاك لحاجة"، وهو أصلٌ كبير. والأدلةُ على ذلك كثيرة، ومن أولاها بأن يحفظ: أنك ترى البيتَ قد استحسنه الناسُ وقَضَوا لقائله بالفضلِ فيه، وبأنَه الذي غاصَ على معناه بفكره، وأنه أبو عُذْره، ثم لا ترى ذلك الحسنَ وتلك الغرابة كانا، إلا لِما بناهُ على الجملةِ دونَ نفسِ الجملةِ. ومثالُ ذلك قول الفرزدق:

وما حملت أم أمرئ في ضُلوعها ... أعقَّ منَ الجاني عَليها هِجائيا٢

فلولا أن معنى الجملة يصيرُ بالبناءِ عليها شيئاً غيرَ الذي كان، ويتغيَّر في ذاتِه، لكان محالاً أن يكونَ البيتُ بحيثُ تراه من الحسن والمزية، وأن يكون معناه


١ من كلام ضمرة بن ضمرة، لما دخل على النعمان بن المنذر، البيان والتبيين ١: ١٧١.
٢ في ديوانه، ثم انظر الفقرة التالية رقم: ٦٤٠، ولهذا البيت، ولما قبله من هذه الفقرة، ورقم: ٦٣٢، أيضًا.