القاعدة الثالثة التى قام عليها اعتقاد السلف الصالح أنهم كفوا أنفسهم عن طلب كيفية الحقائق الغيبية لا سيما التى تتعلق بذات اللَّه وصفاته، والدليل على هذه القاعدة قوله تعالى فى سورة طه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) } وقوله تعالى فى سورة البقرة: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاء (٢٥٥) } فقد شاء اللَّه أن نعلم معانى النصوص الدالة عليه، ومنع عن علمنا العلم بكيفية ذاته وصفاته وأفعاله وكل ما يتعلق بكيفية الأمور فى عالم الغيب حتى الروح التى فينا، قال اللَّه تعالى عنها فى سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (٨٥) } فوجب على العاقل أن يحترم عقله وأن يقف عند حدوده معظما لكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فاللَّه تبارك وتعالى كيَّف مداركنا بحيث لا نستوعب من العلوم إلا فى حدود عالم الشهادة فقط، أما عالم الغيب فهو عالم حقيقى حجبه اللَّه عنا تحقيقا للابتلاء فترة الحياة الدنيا ثم ينكشف الغطاء عند الموت فنرى من حقائقه ما شاء اللَّه تعالى.
... ويجب التنبه إلى أن اللَّه إذا أخبرنا فى كتابه عن شئ من عالم الشهادة دعانا إلى البحث عن كيفيته وخصائصه كقوله تعالى فى سورة الغاشية: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) } وكقوله سبحانه فى سورة الذاريات: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) } أما إذا خاطبنا عن شئ من عالم الغيب خص نفسه بعلم كيفيته فقال سبحانه فى سورة آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّه (٧) } أى لا يعلم حقيقة الغيبيات التى أخبرنا اللَّه عنها إلا اللَّه، فأمرنا بالكف عن طلب الكيفية التى عليها تلك الحقائق لأن ذلك خارج عن إمكانيات حواسنا.