ولعل الروايةَ الآتية أبيَنُ دليلٍ على أن العلماء الذين تمرَّسُوا بهذا العلم في هذه المرحلة إنما كانوا ينقُدُون المتون أكثر من نقدهم الأسانيد، قال أبو حاتم الرازي: "جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي، من أهل الفهم منهم، ومعه دفترٌ فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دخل لِصاحبه حديثٌ في حديثٍ، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلت في بعضه: هذا حديثٌ مُنكر، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ كذِبٌ، وسائر ذلك أحاديثُ صحاح. فقال لي: مِن أينَ عَلِمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ أأخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا ما أدري هذا الجزء من رواية مَن هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب. فقال: تدعي الغيب. قال: قلتُ: ما هذا ادعاء الغيب. قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سَلْ عما قلت من يُحْسن مثل ما أُحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يُحسن مثل ما تُحسن؟ قلتُ: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم. قال: هذا عجب. فأخذ فكتب في كاغدٍ ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلَّم به أبو زرعة في تلك الأحاديث فما قلت: إنه باطلٌ، قال أبو زرعة: هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب، قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت إنه منكر، قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح، قال أبو زرعة: هو صحاح. فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأةٍ فيما بينكما. فقلتُ: فقد تبيّن لك أنا لم نُجازف وإنما قلناه بعلمٍ ومعرفة قد أوتينا.
والدليل على صحة ما نقوله بأن دينارًا نبهرجًا يُحمل إلى الناقد، فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد. فإن قيل له: مِن أين