وغيره مقدارَ ما تحتاج إليه في بقاء مزاج الدماغ على حالة الصحّة، لكن يبحث ويتطلع ويجتهد غاية الجهد ويقدِّر بلوغ هذه المعاني والوصول إليها في زمان أقصر من الزمان الذي لا يمكن بلوغها إلاّ فيه، فيفسد حينئذ مزاج جملة الجسد حتى يقع في الوسواس السوداوي والملنخوليا ويفوته ما طلب من حيث قدّر سرعة الظفر به. ويرى أنّ المدّة التي جُعلت لبقاء هذا الجسد المتحلل الفاسد بالحال التي يمكن النفس الناطقة استعمالها فيما تحتاج إليه لصلاح أمرها بعد مفارقته - وهي المدّة التي منذ حين يولد الإنسان إلى أن يهرم ويذبل - مدةٌ يفي فيها كل أحد، ولو كان أبلد الناس بعد أن لا يضرب عن الفكر والنظر البتّة، بالتطلُّع على المعاني التي ذكرنا أنها تخصّ النفس الناطقة وبأن يرذل هذا الجسدَ والعالم الجسدانيّ البتّة ويشنأه ويبغضه، ويعلَمَ أنّ النفس الحسّاسة ما دامت متعلقة بشيء منه لم تزل في أحوال مؤذية مؤلمة من أجل تداول الكون والفساد إياه، ولا يكرهَ بل يشتاق إلى مفارقته والتخلُّص منه. ويرى أنه متى كانت مفارقة النفس الحساسة للجسد الذي هي فيه وقد اكتسبت هذه المعاني واعتقدتها صارت في عالمها ولم تشتق إلى التعلُّق بشيء من الجسم بعد ذلك البتّة، وبقيت بذاتها حيةً ناطقةً غير مائتة ولا آلمة مغتبطةَ بموضعها ومكانها. أمّا
الحيوية والنطق فلها من ذاتها، وأما بُعدها عن الألم فلبُعدها عن الكون والفساد، وأما اغتباطها بمكانها وعالمها فلتخلُّصها من مخالطة الجسم والكونِ في العالم الجسداني. وأنه متى كانت مفارقتها للجسد وهي لم تكتسب هذه المعاني ولم تعرف العالم الجسداني حقَّ معرفته بل كانت تشتاق