والعطش يكون بالالتذاذ بالطعام والشراب، حتى إذا عاد الجائع والعطشان إلى حالته الأولى لم يكن شئ أبلغ من عذابه من إكراهه على تناولهما بعد أن كانا ألذّ الأشياء عنده وأحبها إليه. وكذلك الحال في سائر الملاذّ فإن هذا الحد بالجملة لازمٌ لها ومحتوٍ عليها، إلا أن منها ما نحتاج في تبيين ذلك منه إلى كلام أدقّ وألطف وأطول من هذا. وقد شرحنا هذا في مقالة كتبناها "في مائية اللذة"، وفي هذا المقدار الذي ذكرناه هاهنا كفاية لما نحتاج إليه. وأكثر المائلين مع اللذّة المنقادين لها هم الذين لم يعرفوها على الحقيقة ولم يتصوروا منها إلا الحالة الثانية، أعني التي من مبدأ انقضاء فعل المؤذي إلى استكمال الرجوع إلى الحالة الأولى. ومن أجل ذلك أحبوها وتمَّنوا أن لا يخلوا في حال منها، ولم يعلموا أنّ ذلك غير ممكن لأنها حالة لا تكون ولا تُعرَف إلا بعد تقدُّم الأولى لها.
وأقول أنّ اللذّة التي يتصوروها العُشاق وسائرُ مَن كلِفَ بشيء وأُغرمَ به - كالعُشاق للترؤُّس والتملُّك وسائرِ الأمور التي يفرط ويتمكن حبها من نفوس بعض الناس حتى لا يتمنوا إلا إصابتها ولا يروا العيش إلاّ مع نيلها - عند تصوُّرهم نيل مرادهم عظيمةٌ مجاوزة للمقدار جداً. وذلك أنهم إنما يتصورون إصابة المطلوب ونيله مع عظم ذلك في أنفسهم من غير أن يخطر ببالهم الحالةُ الأولى التي هي كالطريق والمسلك إلى نيل مطلوبهم. ولو فكروا ونظروا في وعورة هذا الطريق وخشونته وصعوبته ومخاطره ومهاويه ومهالكه لمرّ عليهم ما حلا وعظُم