ما صغر عندهم في جنب ما يحتاجون إلى مقاساته ومكادحته.
وإذ قد ذكرنا جملة مائية اللذّة وأوضحنا من أين غلط مَن تصُرها محضةً بريةً من الألم والأذى فإنا عائدون إلى كلامنا ومنبِّهون على مساوئ هذا العارض أعني العشق وخساسته.
فنقول: إن العُشّاق يجاوزون حدّ البهائم في عدم ملكة النفس وزمّ الهوى وفي الانقياد للشهوات. وذلك أنهم لم يرضوا أن يصيبوا هذه الشهوة، أعني لذّ الباه - على أنها من أسمج الشهوات وأقبحها عند النفس الناطقة التي هي الإنسان على الحقيقة - من أيّ موضع يمكن إصابتها منه، حتى أرادوها من موضع مّا بعينه فضمّوا شهوةً إلى شهوة وانقادوا وذّلوا للهوى ذلاً على ذلّ وازدادوا له عبوديةً إلى عبوديّة. والبهيمة لا تصير من هذا الباب إلى هذا الحدّ ولا تبلغه، ولكنها تصيب منه بقدر ما لها في الطبع مما تطرح به عنها ألم المؤذي المَّهيج لها عليه لا غير، ثم تصير إلى الراحة الكاملة منه. وهؤلاء لمّا لم يقتصروا على المقدار البهيمي من الانقياد للطباع، بل استعانوا بالعقل - الذي فضّلهم الله على البهائم وأعطاهم إيّاه ليروا مساوئ الهوى ويزمّوه ويملكوه - في التسلُّق على لطيف الشهوات وخفّيها والتحُّيز لها والتّفوق فيها، وجب عليهم وحقَّ لهم ألاّ يبلغوا منها إلى غاية ولا يصيروا منها إلى راحة، ولا يزالوا متأذّين بكثرة البواعث عليها ومتحسِّرين على كثرة الفائت منها غير مغتبطين ولا راضين - لنزوع أنفسهم عنها وتعلُّق أمانيهم بما فوقها وبما لا نهاية له منها - بما نالوه أيضاً وقدروا عليه منها.