فلاطن أقبل بعد فراغه من هذا الكلام على وجوه تلامذته فلامهم وعذلهم في تركهم وإطلاقهم هذا الرجلَ وصَرْفَ كل همّته إلى سائر أبواب الفلسفة قبل إصلاح نفسه الشهوانية وقمعها وتذليلها للنفس الناطقة.
ولأن قوماً رُوعْناً يعاندون ويناصبون الفلاسفة في هذا المعنى بكلام سخيف ركيك كسخافتهم وركاكتهم - وهؤلاء هم الموسومون بالظرف والأدب - فإنّا نذكر ما يأتون به في هذا المعنى ونقول فيه من بعده. إنّ هؤلاء القوم يقولون إنّ العشق إنما يعتاده الطبائعُ الرقيقة والأذهان اللطيفة، وإنه يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة. ويُشيعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزل من الشعر البليغ في هذا المعنى، ويحتجّون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة والرؤساء ويتخطونهم إلى الأنبياء. ونحن نقول: إنّ رقّة الطبع ولطافة الذهن وصفاءه يُعرَفان ويُعتبران بإشراف أصحابهما على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة وتبيين الأشياء المشكلة الملتبسة واستخراج الصناعات المُجدِيَة النافعة.
ونحن نجد هذه الأمور مع الفلاسفة فقط، ونرى العشق لا يعتادهم ويعتاد اعتياداً كثيراً دائماً أجلاف الأعراب والأكراد والأعلاج والأنباط. ونجد أيضاً من الأمر العامّ الكلّي أنه ليست أمة من الأمم أرقّ فطنةً وأظهر حكمةً من اليونانيين، ونجد العشق في جملتهم أقلّ ممّا في جملة سائر الأمم. وهذا يوجِب ضدَّ ما ادّعوه، أعني أنه يوجب أن يكون العشق إنما يعتاد أصحابَ الطبائع الغليظة والأذهان البليدة، ومَن قلّ فكره ونظره ورويته بادر إلى الهجوم على ما دعته إليه نفسه