واستدامتها والخوف من تنقُّلهما عنه واعتياد النفس لهما ما كان موضوعا عنه قبل ذلك
وكذلك نقول في العز والجاه والنباهة وسائر المطالب الدنيائية إذ ليس من مرتبة تُنال ويُبلغ إليها إلا وُجد الاغتباط والاستمتاع بها يقل بعد نيلها ويصغر في كل يوم حتى يضمحل وتصير عند نائلها بمنزلة الحالة التي عنها انتقل ومنها ارتقى ويحصل عليه من أجلها فضل مؤن وغموم وأحزان لم تكن فيما مضى. وذلك أنه لا يزال يستقل لنفسه ما هو فيه ويجتهد في الترقي إلى ما هو أعلى منه ولا يصير إلى حالة ترضاها نفسه بتّةً بعد وصوله إليها وتمكنه منها. فأما قبل الوصول فقد يريه الهوى الرضى والقنوع بالحالة المقصودة، وذلك من أعظم خُدَعِهِ وأسلحته ومكايده في اجتهاده وجَرِّه إلى الحالة المطلوبة، حتى إذا حصلت له تطلّع إلى ما هو فوقها. ولا تزال تلك الحالة حاله ما صاحب الهوى وأطاعه، نحو ما قلنا في هذا الكتاب إنه من أعظم مكايد الهوى وخُدَعه، من أجل أن الهوى يتشبه في مثل هذه الأحوال بالعقل ويدلِّس نفسه ويوهم أنه عقلي لا هوائي وأن ما أراه خيرة لا شهوة بأن يدلِّى ببعض الحِجاج ويقنع بعض الإقناع، لكن إقناعه وحجته هذه لا يلبث إذا قوبلت بالنظر المستقيم أن تدحض وتبطل. والكلام في الفرق بين ما يريه العقل وبين ما يريه الهوى باب عظيم من أبواب صناعة البرهان ليس نقله إلى هذا الموضع اضطرارياً، لأنا قد لوحنا منه في غير موضع من كتابنا هذا يما نكتفي به في غرضه،