ولأنا ذاكرون جُملاً منه مجزئةً كافيةً لِما يراد منه في بلوغ مغزى هذا الكتاب، فأقول: إن العقل يُرى ويختار ويؤثر الشيء الأفضل الأرجح الأصلح عند العواقب وإن كان على النفس منه في أوائله مؤنه وشدة وصعوبة. وأما الهوى فأنه بالضد من هذا المعنى، وذلك أنه يختار أبداً ويؤثر ما يدفع به الشيء المؤذي المماس الملازق له في وقته ذلك وإن كان يُعقب مضرةً، من غير نظرٍ فيما يأتي من بعد ولا روية فيه. مثال ذلك ما ذكرنا قبل عند الكلام في زم الهوى من أمر الصبي الرمد المؤثر لأكل التمر واللعب في الشمس على أخذ الهليلج والحجامة ودواء العين. والعقل يرى صاحبه ما له وعليه، فأما الهوى فإنه يرى أبداً ما له ويعمى عمّا عليه. ومثال ذلك ما يَعمى عنه الإنسان من عيوب نفسه ويبصر قليل محاسنه أكثر مما هي. ولذلك ينبغي للعاقل أن يتهم رأيه أبداً في الأشياء التي هي له لا عليه ويظن به أنه هوى لا عقل ويستقصي النظر فيه قبل إمضائه. والعقل يرى ما برى بحجة وعذر واضح، وأما الهوى فإنه إنما يقنع ويرى بالميل والموافقة لا بحجة يمكن أن ينطق بها ويعبر عنها وربما تعلق بشيء منذ ذلك إذا أخذ يتشبه بالعقل، غير أنه حجاج ملجلج منقطع وعذر غير بين ولا واضح. ومثال ذلك حالة العشاق والذين قد أُغروا بالسكر أو بطعام رديء ضار وأصحاب المذهب ومن ينتف لحيته دائباً ويعبث ويولع بشيء من بدنه، فإن بعض هؤلاء إذا سئل عن عذره في ذلك لم ينطق بشيء بتةً ولا كان عنده في نفسه شيء يمكن أن يحتج به أكثر من ميلٍ إلى ذلك الشيء وموافقته ومحبةٍ طبيعية غير منطقية. وبعضهم يأخذ ويحتج ويقول