من الترهب والتخلي في الصوامع وكثير من المسلمين من لزوم المساجد وترك المكاسب والاقتصار على يسير الطعام وبشعه ومؤذي اللباس وخشنه، فإن ذلك كله ظلم منهم لأنفسهم وإيلام لها لا يدفع به ألم أرجح منه وقد كان سقراط يسير مثل هذه السيرة من أول عمره غير أنه تركها في آخر عمره على ما ذكرنا قبل. وفي هذا الباب بين الناس تباين كثير جدًّا غير متطرق به. ولا بد أن نقول في ذلك قولا مقربا ليكون مثالاً
فنقول: إنه لما كان الناس مختلفين في أحوالهم فمنهم غذىّ نعمة ومنهم غذى بؤس ومنهم من تطالبه نفسه ببعض الشهوات مطالبة أكثر كالمغرمين بالنساء أو الخمر أو حب الرياسة ونحو ذلك من الأمور التي فيها بين الناس تفاوت كثير صار الألم الذي يقع بهم من قمع شهواتهم مختلفا اختلافا كثيرا بحسب اختلاف أحوالهم. فصار المولود من الملوك والناشئ في نعمهم لا تحتمل بشرته خشن الثياب ولا تقبل معدته بشع الطعام بالإضافة إلى ما يقنع به المولود من العامة، لكن يتألم من ذلك ألما شديدا، أو المعتادون أيضا إصابة لذّةٍ ما من اللذات يتألمون عند المنع منها وتكون المؤونة عليهم متضاعفة وأبلغ وأشد ممن لم يعتد تلك اللذة، ومن أجل ذلك أنه لا يمكن أن يكون تكليفهم كلهم تكليفا سواء بل مختلفا بحسب اختلاف أحوالهم. فلا يكلف المتفلسف من أولاد الملوك أن يلزم من الطعام والسراب وسائر أمور معايشه ما يكلف أولاد العامة إلا على تدريج إن دعت ضرورة. لكن الحد الذي لا يمكن أن يتجاوز هو أن يمتنعوا من الملاذ التي لا يمكن الوصول إليها إلا