للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب المعالي أخي المكرم الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر -حفظه الله ووفقه-

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:

فقد وَصَلَنَا خطابكم الكريم بتاريخ (٢٣/ ٤/ ٨٩ هـ) (١)، وفهمنا ما سألتم عنه، والجواب -حفظكم الله ووفقكم- عن المسألة الأولى التي هي محل العقل هو ما ستراه، ولا يخفى على معاليكم أن بحث العقل بحث فلسفي قديم، وللفلاسفة فيه مائة طريق باعتبارات كثيرة مختلفة، غالبها كله تخمين وكذب وتَخَبُّط في ظلام الجهل، وهم يسمون الملائكة عقولًا، ويكثرون البحث في العقول العشرة المعروفة عندهم، ويزعمون أن المؤثر في العالم هو العقل الفيَّاض، وأن نوره ينعكس على العالم كما (ينعكس نور) (٢) الشمس على المرآة، فتحصل تأثيراته بذلك الانعكاس، ويبحثون في العقل البسيط الذي يمثل به المنطقيون للنوع البسيط، إلى غير ذلك من بحوثهم الباطلة المتعلقة بالعقل من نواح شتى (٣)، ومن تلك البحوث قول عامتهم إلا القليل منهم: إن محل العقل الدماغ، وتبعهم في ذلك قليل من المسلمين، ويُذْكَر عن الإمام أحمد أنه جاءت عنه رواية بذلك (٤)، وعامة علماء المسلمين على أن محل العقل القلب، وسنوضح إن شاء الله تعالى حجج الطرفين، ونبين ما هو الصواب في ذلك.

اعلم (أولًا) (٥) -وفقني الله وإياك- أن العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية (٦)، وإن مَنْ خَلَقَه وأبرزه من العدم إلى الوجود، وزين به العقلاء وأكرمهم به، أعلم بمكانه الذي جعله فيه من جهلة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي، وليس أحدٌ بعد الله أعلمَ بمكان العقل من النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم، الآية (٣، ٤) وقال تعالى عن نفسه: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة، الآية (١٤٠)].

والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منهما التصريح بكثرة بأن محل العقل القلب، وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين لا يترك احتمالًا ولا شكًا في ذلك، وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح، وسنذكر طرفًا من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك وطرفًا من الأحاديث النبوية، ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومَنْ تبعهم، ونوضح الصواب في ذلك -إن شاء الله تعالى-.

واعلم أولًا: أنه يغلب في الكتاب والسنة إطلاق القلب وإرادة العقل، وذلك أسلوب


(١) هكذا بالأصل، وفي (أ): (٢٣/ ١/ ١٣٨٩).
(٢) في (أ): (تنعكس الشمس).
(٣) راجع: معيار العلم في فن المنطق لأبي حامد الغزالي (ص ٢٨٧: ٢٩٠)، والمبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي (ص ١٠٦: ١٠٨)، وانظر كذلك: بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص ٢٨٢)، ومنهاج السنة النبوية (١/ ١٨٤)، الصفدية (١/ ١٤)، (٢/ ٢٥٢) ودرء تعارض العقل والنقل (١/ ٣٦، ٣٣٧)، (٥/ ٨١، ١٧٤، ٣٤١، ٣٨٤: ٣٨٧)، (٧/ ١٢٦، ٣٦٨، ٣٨٨، ٣٩٠)، (١٠/ ٨٤، ١٨١، ٢١٩).
(٤) قال القاضي أبو يعلى في كتابه العدة (١/ ٨٩، ٩٠): "ومن الناس من قال: هو الدماغ، وقد نص أحمد -رحمه الله- على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص ابن شاهين في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضل بن زياد، وقد سأله رجل عن العقل: أين منتهاه من البدن؟، فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم، وافر الدماغ والعقل"، وقال المرداوي في التحبير (١/ ٢٦٢): "والمشهور عن الإمام أحمد أن العقل في الدماغ، نقله ابن حمدان، لكن أكثر الأصحاب قطعوا عن أحمد في الدماغ، ولم يحكوا عنه فيه خلافًا، وهذا القول اختاره من أصحابنا الطوفي، والحنفية". وقد جعل الطوفي في شرحه على مختصر الروضة (٢/ ١٥٩) للإمام أحمد روايتين، وكذلك الزركشي في البحر المحيط (١/ ٨٨)، قال الطوفي: "وقالت الفلاسفة والحنفية: الدماغ، والأول (أي القلب) منقول عن أحمد والشافعي ومالك. وراجع لقول الحنفية: "كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي" لعلاء الدين البخاري (٤/ ٢٦٣)، وتيسير التحرير لأمير بادشاه (٢/ ٢٦١)، ولكن قال البزدوي: "أما العقل فنور يضيء به طريقه، يبتدأ به من حيث ينتهي إليه دَرْك الحواس، فيبتدئ المطلوب للقلب، فيدركه القلب، يتأمله بتوفيق الله تعالى" كشف الأسرار (٢/ ٧٣١)، وعَرَّف السرخسي في أصوله (١/ ٣٤٦، ٣٤٧) العقل بأنه: "نور في الصدر به يبصر القلب عند النظر في الحجج".
(٥) ساقطة من (أ).
(٦) انظر تعريف الشيخ -رحمه الله- للعقل بنصه في الكليات للكفوي (ص ٦١٨، ٦١٩)، وذكره الشيخ -رحمه الله-في شرحه على منظومته في المنطق (١ ل) {مخطوط}، فقال: "والعقل نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية".

<<  <  ج: ص:  >  >>