للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، الآية (٣٠، ٣١) فتأمل قوله في اليهود والنصارى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يظهر لك صدق اسم الشرك عليهم، فيتضح إدخالهم في عموم: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}.

ووجه الفرق بينهم بعطف بعضهم على بعض، هو أنهم جميعًا مشركون، والمغايرة التي سَوَّغَتْ عطف بعض المشركين على بعض، هي اختلافهم في نوع الشرك، فشرك المشركين غير أهل الكتاب كان شركًا في العبادة؛ لأنهم يعبدون الأوثان، وأهل الكتاب لا يعبدون الأوثان، فلا يشركون هذا النوع من الشرك، ولكنهم يشركون شرك (ربوبيةٍ) (١)، كما أشار له تعالى بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية [التوبة، الآية (٣١)]، ومن اتخذ أربابًا مِن دون الله فهو مشرك به في ربوبيته، وادعاء أن عزيرًا ابنُ الله، والمسيحَ ابنُ الله مِنَ الشرك في الربوبية، ولما كان الشرك في الربوبية يستلزم الشرك في العبادة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، الآية (٣١)] (٢)، وما ذكرتم من أن عطاء -رحمه الله- جعل المسجد يشمل الحل (٣)، وأن المسلمين درجوا على ذلك إلى الآن (٤)، فهي مسألة: هل يجوز دخول الكفار لمسجد من مساجد المسلمين غير المسجد الحرام المنصوص على منع دخولهم له بعد عام تسع من الهجرة في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ... } الآية [التوبة، الآية (٢٨)]، والعلماء مختلفون هل يجوز دخول الكفار مسجدًا غير المسجد الحرام أو لا، فذهب مالك وأصحابه (٥) ومَنْ وافقهم (٦) إلى أنه لا يجوز أن يدخل الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين مطلقًا،

(واستدلوا) (٧) لذلك بأدلة منها: آية التوبة (٨)، وإن كانت خاصة بالمسجد الحرام، فَعِلَّةُ حكمها (تقتضي) (٩) تعميمه في جميع المساجد، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها تارة، وقد تخصصه تارة، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود، بقوله في الكلام على العلة (_) (١٠):

وقد تُخَصِّصُ وقد تُعَمِّمُ ... لأصلها لكنها لا تَخْرِمُ (١١)

وإذا علمت أن العلة تعمم معلولها الذي لفظه خاص، فاعلم أن مسلك العلة المعروف بـ مسلك الإيماء والتنبيه (١٢)، دل على أن علة منع قربان المشركين المسجد الحرام بعد عام تسع أنهم نجس، وذلك واضح من ترتيب الحكم بالنهي عن (قربانها) (١٣) بـ "الفاء"، على كونهم نجسًا في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... } الآية، ثم رتب على ذلك بـ "الفاء" قوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ... } الآية، ومعلوم أنَّ جميعَ المساجد تجب صيانتُها عن دخول النَّجسِ فيها، فكونهم نجسًا يقتضي تعميم الحكم في كل المساجد.

واستدل مالك ومَنْ وافقه أيضًا على منع دخول الكفار المساجد مطلقًا بآية البقرة على بعض التفسيرات التي فُسِّرَتْ بها، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ... } الآية [البقرة، الآية (١١٤) فقد فُسِّرَ قولُهُ تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا ... } أي: ليس لهم دخول المساجد إلا مُسَارَقَةً خائفين من المسلمين أن يَطَّلِعُوا عليهم فيخرجوهم منها وينكلوا بهم (١٤).

وفي تفسير الآية أقوال غير هذا (١٥)، وسواء قلنا: إن تخريب المساجد حسي، كما فعلت الرومُ وبُخْتَنَصَّر بالمسجد الأقصى (١٦) المشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء، الآية (٧) أو قلنا: إن تخريب المساجد المذكور في الآية تخريب معنوي، وهو منع المسلمين من التعبد فيها، كما فعل المشركون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عام الحديبية، كما قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... } الآية [الفتح، الآية (٢٥)


(١) في (أ): (الربوبية)، بإثبات الألف واللام.
(٢) راجع: المغني (١٣/ ٢٤٥)، تفسير القرطبي (٨/ ٧٢)، المحلى (٤/ ٢٤٤)، أحكام أهل الذمة لابن القيم (١/ ٣٩٩)، العذب النمير (٥/ ٢١٣٠، ٢٢٣٨ - ٢٢٤٢)، السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني -رحم الله الجميع- (٣/ ١٢٥).
(٣) هكذا بالأصل، وفي (أ): (الكل)، وهي مذكورة في نص سؤال الشيخ محمد الأمين بن محمد الخضر رحمه الله: "الحل"، ويوهم رسمها كذلك: "الكل". ولعل الشيخ -رحمه الله- يريد (الحرم) بدليل أن الذي ورد عن عطاء حول هذا المعنى أخرجه عبد الرزاق (٩٩٨٠، ٩٩٨١، ١٩٣٥٦)، وابن جرير في تفسيره (١١/ ٣٩٨)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٧٦)، والنحاس في ناسخه (ص ٤٩٧)، من طريق ابن جريج، وفيه أنه قال: "الحرم كله قبلة ومسجد، قال: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة الحرم"، وقال عطاء في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} "الحرم كله" كما في المصنف لعبد الرزاق (٥/ ١٥١)، وبنحو هذا جاء عن عمرو بن دينار؛ أخرجه عبد الرزاق (٦/ ٥٢)، والنحاس في ناسخه (ص ٤٩٧)، وورد أيضًا عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهما، راجع: أخبار مكة للأزرقي (٢/ ١٠٦، ١٣٨، ١٣٩)، والفاكهي (٣/ ٣٦٥)، والدر المنثور (٤/ ٦٣١) -رحم الله الجميع-.
(٤) ادعى ابن حزم في المحلى (٧/ ١٤٨) الإجماع على أن المراد بالمسجد الحرام في قوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الحرم كله، وسيأتي بيانه.
(٥) راجع: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (١/ ١٣٩)، جواهر الإكليل (١/ ٢٣، ٢٦٧)، مواهب الجليل (٣/ ٢٨١)، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٣٣ - ١٠٧).
(٦) وهو مروي عن الإمام أحمد -رحمه الله-، راجع المغني (٨/ ٥٣٢)، الآداب الشرعية لابن مفلح (٣/ ٤٠٦، ٤٠٧)، الإنصاف (٤/ ٣٣٩)، إعلام الساجد للزركشي (٣١٨ - ٣٢٠)، تفسير القرطبي (٢/ ٧٨).
(٧) في (أ): (واستدل)، بحذف ولو الجماعة.
(٨) يريد -رحمه الله- قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ... } الآية [التوبة: ٢٨].
(٩) في (أ): (يقتضي)، بالياء.
(١٠) زاد في (أ): (بقوله).
(١١) معنى البيت: أي أن العلة يجوز أن تخصص أصلها الذي استنبطت منه، وتعممه على الظاهر من مذهب مالك، انظر: نثر الورود (ص ٤٧٣).
(١٢) الإيماء هو: اقتران الوصفِ (أو نظيرِه) بالحكم (أو نظيره على وجه)، انظر: نثر الورود (ص ٤٨٠).
(١٣) في (أ): (قربان المسجد).
(١٤) هذا التفسير مروي بنحو هذا اللفظ عن قتادة -رحمه الله-، أنه قال: هم النصارى، فلا يدخلون إلا مسارقة، إن قدر عليهم عوقبوا، أخرجه عبد الرزاق (١/ ٥٦)، وابن أبي حاتم (١/ ٢١١)، والطبري (٢/ ٤٤٦، ٤٤٧)، وإسناده صحيح.
(١٥) في (أ): (هذه)، ولمعرفة الأقوال الأخرى راجع: تفسير الطبري (٢/ ٤٤٢ - ٤٤٧)، وأضواء البيان (١/ ٧٢، ٧٣).
(١٦) راجع: تفسير الطبري (٢/ ٤٤٦، ٤٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>