للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنهم لو كانوا كلهم شرعًا واحدًا في باب النطق، ولم يكن هناك من ضم إلى نطقه علمًا، لكانوا كلهم متساوين في المعرفة بها لأن ما يدرك طبعًا لا يقع فيه تفاضل، في هذه اللغة بضرب لا يعم الجميع ويختص بعضهم بما هو غير عام في جميعها من الآخر، وأن الكلمة من الغريب قد ترد على من لا يعرفها منهم، وقد ترد على من يعرفها. وقد كان منهم من يرجع إليه ويسأل عنه، فلولا أن عند المرجوع إليه في ذلك علمًا من جهة الحفظ والاستنباط لتساووا كلهم فيه. وكذلك أيضًا نجد منهم من يقول الشعر ويرجز ويسجع، وليس ذلك في جميعهم. وقد علمنا أن من قال منهم ذلك فإنما قاله طبعًا وعادة لا تكلفًا إلا إنه لم يشركه في ذلك الجميع فقد بان لنا أنهم يتفاضلون في هذه اللغة بضرب لا يعم الجميع ويختص بعضهم بما هو غير عام في جميعها.

وصنف ثالث ممن تكلم بهذه اللغة تعليمًا وأخذًا واتباعًا للأولين طلبوا مقاييسها لأنهم لم يمكنهم ضبطها وحصرها حفظًا، ولا كان ذلك متيسرًا أن يؤخذ كل لفظ عنهم سماعًا فبعضها عرفوه بالاعتياد والعرف والنشوء عليه صغارًا وكبارًا حتى صاروا فيه كالمطبوعين المعتادين لأنهم لم يتكلموا بغير هذا اللسان قط. وبعض عرفوه بالاستدلال والمقاييس من رفع الفاعل ونصب المفعول والخفض بالحروف الخافضة والجزم بالجازمة وما أشبه ذلك مما أدرك من كلامها استنباطًا وتعلمًا لأنه لم يسمع أحد من العرب اسم كل فاعل ومفعول، ولا بناء كل مصدر وجمع وإنما سمع بعضًا وقاس بعضًا فأصاب، ولم يخرج عن أوضاعهم، وشهد بصحة ذلك موافقته لما جاء في أشعارهم وأراجيزهم وأسجاعهم، وما جاء في القرآن العربي المبين. وهذه الطائفة هم علماء هذه اللغة الذي عنوا بحفظها وجمعها ونقلها وتتبعها والفحص عن أسرارها فصاروا أئمة في هذا العلم قدوة يحتج بقولهم فيها كما يحتج بقول الأولين المطبوعين، وواجب الرجوع إليهم فيها، كما أن لكل علم علماء وأعلامًا ينتهي إليهم فيه ويقبل عنهم، فكذلك هؤلاء لما تدبروا هذه اللغة وعرفوا حقائقها وما خصها الله به من الفضلية على كل لغة ميزوا بين بعض الكلام وبعض، فقالوا: إن منه أصولاً أسماء للأشخاص والأعيان الأول واقعة أولاً للفصل بين بعضها وبعض نحو: رجل، وفرس، وثوب، وعين، وقدر، وما أشبه ذلك.

ومنها أسماء وضعت أعلامًا اتفاقًا يدل كل اسم منها على شخص بعينه نحو: زيد وجعفر وبكر وما أشبه ذلك. ولم يجب أن تقع فيها مشاركة، فلما طال الزمان وقعت المشاركة اتساعًا، ووقع الفصل بالنعوت.

<<  <   >  >>