وهذه الرؤية تسعى للمواءمة بين الإلزام بالشريعة وبين الحداثة السياسية المعاصرة، فتجتهد في تكييف الإلزام الشرعي وإخراجه بشكل مدني بشري قائم على اختيار الناس كأي قانون آخر، فالحكم بالإسلام حينئذ لن يكون مبينًا على رؤية دينية ولزوم شرعي، بل لأنه قانون مدني مثل أي قانون آخر جاء بقانون ويمكن أن يذهب بقانون، فله شرعيته واحترامه السياسي ما دام قانونًا، وتذهب هذه الشرعية بذات الطريقة التي جاءت بها، لهذا لا يرفض كثير من العلمانيين تحكيم الشريعة حين يأتي عن طريق اختيار الناس؛ لأن المشروعية العليا حينها للناس وليس للشريعة.
الرؤية الخامسة:
أن كل جريمة معصية، وليس كل معصية جريمة، فلا يلزم من كون الشيء حرامًا أن يكون مجرمًا قانونًا، فالمحرم آثم شرعًا ويعاقب عليه في الآخرة، وكذا تارك الواجب، وأما في الدنيا فلا يلزم أن يكون عليه عقاب أو منع.
وحين يكون الأمر مجرد تجريم أخروي فليس لدى العلمانيين أي إشكال مع هذا التفكير، بل هي ذات رؤية علي عبد الرازق، فهو لم يقل إن من حق الشخص أن يفعل المحرمات ويترك الواجبات ولا عقاب عليه في الآخرة! إنما حديثه عن الجانب الدنيوي، فنفي التجريم عن المحرمات الشرعية -إلا عن المحرمات التي تجرم في القانون المعاصر- هو ذات الرؤية العلمانية لكن عبر مدخل جديد.
الرؤية السادسة:
أن رابطة الدولة في العصر الإسلامي الأول كانت تقوم على الدين نظرًا للظرف التاريخي الذي عاصرته، فكان حضور الدين تبعًا لطبيعة الرابطة، بينما الرابطة المعاصرة هي رابطة دنيوية تعاقدية بحتة، وحينها تتوقف كافة الأحكام الشرعية لأنها مرتبطة بظرف معين قد اختلف.