فاندهش هذا الرجل وأخذ يفكر ويتأمل، فقال في نفسه: أنا معرّض نفسي للتعب والأخطار في طلب التجارة، فلماذا لا أرجع لطلب العلم مع أخي، والذي تكفل برزق هذا الطائر الكسيح في هذه المفازة سيرزقني، وعاد أدراجه إلى بلده، وجلس في الحلقة مع أخيه، ولما انتهت القراءة إليه سأله الشيخ-وكان عارفاً بحاله وحال أخيه - قائلاً: ما الذي أتى بك؟! فذكر له ما رأى في الغار من حال ذينك الطائرين، وما جال في فكره من أن من كفل رزق ذلك الطائر الكسيح سيكفل رزقه، فقال له الشيخ بمنطق العالم العارف بقيمة السعي في طلب الرزق في الإسلام: عجباً لك كيف رضيت لنفسك أن تكون بمنزلة الطائر الكسيح، ولم ترض لها أن تكو بمنزلة الطائر القوي الذي يقوم على نفسه وعلى غيره. فقام هذا الرجل ولبس نعليه، وعاد في تجارته.
وحسبي أن أكون قد أطلت في التعليق عل هذه المسألة، لأن كثيراً من شباب الأمة أصبحوا عالة على الآخرين، وهمم يعيشون الفراغ، وحياة الضياع، دأبهم الرحلات والنزهات، وهمهم تزجية الأوقات، انشغلوا بما يعدونه من المباحات، وقد أدى ذلك بكثير منهم إلى التقصير في الواجبات وانتهاك الحرمات والتخلي عن المسؤوليات، فقصّر الواحد منهم من أجل ذلك في حق ربه، وفي حق نفسه، وفي حق والديه وزوجته وأولاده وأقاربه وجيرانه وإخوانه وأمته.
يقضي الواحد منهم الليالي والأيام بل والأسابيع والشهور خارج منزله، وأهله وأولاده ووالداه ينتظرونه بفارغ الصبر، يتمنى والداه وأولاده أن يجلس معهم على مائدة الإفطار أو الغداء أو العشاء، فلا يتحقق لهم ذلك، منشغل بدون شغل إلا تزجية الأوقات، أثقلته الديون فلا يفكر في عمل لكي يسدد هذه الديون، وليس في ديننا مكان للكسل والبطالة، فأمتنا بحاجة إلى العالم المحقق، والتاجر الأمين، والصانع الماهر، والزارع الخبير والطبيب الحاذق، والمهندس الدقيق. وديننا الإسلامي دين ودنيا، علم وعمل.