ثانيا: الحياء: فإن العلم بسمع الرب وبصره، وعلمه المحيط بما في السماوات والأرض، والتحقق بمعيته يثمر في قلوب العباد الاستحياء من اطلاع الرب عليهم، وأن يراهم على ما يكره، فتبقى خواطرهم وألسنتهم وجوارحهم محفوظة من المعاصي الظاهرة والباطنة، ولهذا كثر في القرآن الكريم ذكر صفة العلم في نصوص الجزاء على الأعمال كقوله تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك: ١٤]، وقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[فصلت: ٤٠]، وقوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة: ٧]، والمعية في الآية معية علم، كما يدل لذلك سياق الآية، حيث بدئت وختمت بالعلم، ولهذا قال علماء السلف: هو معهم بعلمه (١). وهذه المعية تورث القلب كمال الحياء من الله تعالى، وكذلك شأن المعية الخاصة من باب أولى، إذ كلا النوعين يدل على مصاحبة الرب لعبده واطلاعه على أحواله، واختلافهما إنما هو في المقتضى لا في أصل الدلالة، يقول ابن القيم:"المعية نوعان: عامة: وهي معية العلم والإحاطة .... وخاصة: وهي معية القرب .... فهذه تتضمن الموالاة والنصر والحفظ.
وكلا المعنيين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة، فـ "مع" في لغة العرب تفيد الصحبة
(١) انظر: الرد على الجهمية للإمام أبي سعيد الدارمي ص٢٦٨، ٢٦٩ (ضمن عقائد السلف).