من المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزًا عنه، ولا انقطاعًا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة، وقد كانت هذه الفتن قد وقعت في زمانهم وظهرت, وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لمَّا تخوفوه من فتنتها وعلموه من سوء عاقبتها وسيء مغبتها.
وقد كانوا على بينة من أمورهم، وعلى بصيرة من دينهم؛ لما هداهم الله بنوره وشرح صدورهم بضياء معرفته فرأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنَّة وبيانها غناء ومندوحة مما سواها، وأن الحجة قد وقعت وتمت بهما وأن العلة والشبهة قد أزيحت بمكانهما.
فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والطاعنون في الدين بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ودلائل العقل؛ لم يقووا عليهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم.
فكان ذلك ضِلَّة من الرأي وخدعة من الشيطان.
فلو سلكوا سبيل القصد ووقفا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا بردِّ اليقين ورَوْح القلوب, ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور وأضاءت فيها مصابيح النور" (١).