أن هذا الذي رباه ليس أباه، وأن هذه التي أرضعته ليست أمه التي ولدته؛ فإنه حينئذ يدخل في غربة شديدة، قد تذهب بعقله كله، أو بعضه، إلا أن يعتصم بالله، والسبب في ذلك أنه فقد المعرفة بمن كان له سبباً في الخروج من عالم العدم إلى عالم الوجود، ودخل في جهل عظيم بنسبه وأصله، وانقطعت بين يديه سلسلة سنده التي تربطه إلى شجرة المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه، وهنا -صورة تلقائية لا إرادية- يدخل في سلسلة من البحث والأسئلة في كل مكان، وحيثما اتفق، يسأل سؤالاً واحداً: من أبي؟ أو من أمي؟ سؤالان يؤولان إلى معنى واحد: هو من أنا؟
إن البحث عن الذات فطرة في الإنسان، ولن تعرف الذات إلا بمعرفة سبب وجودها، إذ المعلولات مرتبطة بالعلل وجوداً وعدماً، ومن ثم جهلاً ومعرفة. وهنا يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة غضبه من كثرة أسئلتهم المعنتة.
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في حديث طويل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً، فكان مما قال: «من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه! فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا! قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني! فقال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار! فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟