نَفْس كلامِ اللهِ، وأنه غيرُ مخلُوقٍ، فهي كُلُّهَا دَاخِلَةٌ عليهم كما تَدْخُلُ على الجهمية؛ لأن كُلَّ مَنْ آمنَ بِاللهِ وصَدَّقه في قوله:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}[التوبة: ٦] وفي قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}[الفتح: ١٥] فَأيقنَ بأنَّهُ كَلامُهُ حقًا كما سماه أَصدقُ القَائِلينَ؛ لَزِمَهُ الإيمان بأنَّه غير مخلوق؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يجعل كلامًا مخلوقًا لنفسه صِفَةً وكلامًا، ولم يُضِفْ إلَى نَفسِهِ كلامَ غَيْرِهِ لأَنَّهُ أَصدقُ القائلينَ.
ولا يُقَاسُ كلامُ اللهِ بِبَيْتِ اللهِ وعبدِ اللهِ وخَلْقِ اللهِ ورَوْحِ اللهِ؛ لأن الخَلْقَ ليس مِنَ اللهِ ولا مِنْ صِفَاتِهِ، وكَلامُهُ صِفَتُهُ ومِنْهُ خَرَجَ، فلا يُضَافُ إلى اللهِ مِنَ الكَلامِ إِلاَّ ما تَكَلَّمَ بِهِ، ولو جَازَ أن يُنْسَبَ كلامُ مخلوقٍ إلى اللهِ، فَيَكُون للهِ كلامًا وصِفَهً كما يُضَافُ إليه بَيْتُ اللهِ وعبدُ اللهِ، لجاز أن تَقُول: كُلُّ مَا يُتَكَلَّمُ به آناءَ الليلِ والنَّهارِ، مِنْ حَقٍّ أو بَاطِلٍ أو شِعْرٍ أو غِنَاءٍ أو نَوْحٍ؛ كَلامُ اللهِ، فَمَا فَضْلُ القُرآنِ -في هذا القِياسِ- على سَائِرِ كَلامِ المَخْلُوقِينَ، إِنْ [كان](١) كُلُّهُ يُنْسَبُ إِلَى اللهِ، ويُقَامُ للهِ صِفَةً وكلامًا -في دعواكم- فَهَذَا ضَلالٌ بَيِّنٌ مَعَ أَنَّا قَد كُفِيَنا مَؤُنَةَ النَّظَرِ، بما في كتاب الله مِنَ البيانِ، وفي الأثَرِ مِنَ البُرهَانِ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم.
قال أبو سعيد رحمه الله: احْتَجَجْنَا بهذه الحُجَجِ وما أشبهها على بعضِ هؤلاءِ الواقِفَةِ، وكان من أَكبِر احتجاجِهِم علينا في ذلك أَنْ قَالُوا: إِنَّ ناسًا مِن مَشْيَخَةِ رُواةِ الحَدِيثِ الذين عَرفناهم عن قِلَّةِ البصرِ بمذاهبِ الجهمية؛ سُئِلُوا عن القُرآنِ؟ فقالوا: لا نقول فيه بِأَحَدِ القَوْلَين، وأَمْسَكُوا عنه، إذ لم يَتَوَجَّهُوا لمرادِ القَوْمِ، لأنها كانت أُغْلُوطَةٌ وَقَعَت في مَسَامِعِهِم، لم يعرفوا تَأْوِيلَهَا، ولم
(١) ما بين معقوفين زيادة ليست في الأصل، اقتضاها السياق.