فإنّها قصدت إلى عمل آخر، وهو تحقيق أصول الكلمات الدخيلة الواردة في كتاب المعرب، وتتبع المراحل التي مرّت بها هذه الكلمات في رحلتها من لغاتها الأصيلة إلى اللغة العربية، وما جرى عليها في مستقرّها الجديد. وإنّ ذلك لعمل خطير وجليل، الخائضون فيه كثير والقادرون عليه قليل، خفّى المسالك شديد المزالق، تتقاصر دونه الهمم وتنقطع الأسباب، تتكاثر فيه الأوهام وتتعثّر الأفهام. ومعظم الوالجين فيه في العصر الحديث كانوا إمّا أصحاب هو، والهوى إذا دخل حمى العلم من جهة خرجت الحقيقة من جهة أخرى، وإمّا طلاب حقّ غير أنّهم لم يستكملوا الأدوات المطلوبة للخوض فيه، فمشوا على غير هدًى، وزلّت بهم الأقدام.
وذلك أنّ الخوض في هذا الموضوع يحوج إلى آلات قلّما تجتمع في شخص واحد، فهو يتطلّب أولاً معرفة اللغات التي انحدرت منها الكلمات المعربة، ومتابعة الدراسات اللغوية المتقدّمة التي تقوم فيها. ومعظم الكلمات الدخيلة جاءت من الفارسية واليونانية والسريانية، وقليل منها من اللاتينية والعبرانية. فالباحث الذي يريد أن يحقّق أصولها لا محيص له من معرفة هذه اللغات الخمس جميعًا، بالإضافة إلى التضلّع من علوم العربية والوقوف على دقائقها، ثمّ معرفة علم الأصوات الذي يهدي إلى التغيّرات التي طرأت على الكلمات الدخيلة. ويزداد الأمر صعوبة والمطلب بعدًا إذا علمنا أنّ كتاب المعرب يحوي نحو ثلاثين وسبعمائة كلمة.
ولقد قيّض الله سبحانه وتعالى لهذا العمل أخيرًا عالمًا جليلاً ولغويًا ضليعًا، قلّما يدانيه - فيما أعلم - أحد من معاصريه فيما اجتمع عنده من كفايات علمية متعدّدة تجعله خير من يتصدّى لهذه المهمّة الشاقّة. فهو عالم واسع الاطلاع طويل الباع في اللغة العربية، وعارف بعشر لغات أخرى بين إجادة وإلمام، ومتخصّص في فقه اللغة، ومتعمّق في علم الأصوات. ومع هذا