هجان عليها حمرة في بياضها ... تروق بها العينين والحسن أحمر
البيروني وأبو تمام:
شهد العصر العباسي انقلابًا عظيمًا في الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية، وأحدث اختلاط العناصر المختلفة ولقاح الثقافات المتباينة تغيّرًا في الذوق، وتغيّرًا في التفكير، وتغيّرًا في التعبير، فكان طبيعيًّا أن يتطور الشعر بتطوّر الحياة ويسلك طريقًا غير طريق المتقدّمين فيعبّر عن المعاني الجديدة تعبيرًا عصريًا.
فنرى أبا تمام في هذا العصر يسلك - بفضل ثقافته العصرية وعقليته الممتازة - مذهبًا جديدًا وصف بغموض المعاني والتدقيق الفلسفي وكثرة الحوشي والإغراق في الطباق، بينما نرى تلميذه البحتري يؤثر أسلوب الأوائل الذي يمتاز بصحّة السبك وحسن الديباجة وانكشاف المعاني وقرب المأخذ، ويلتزم بما سمّوه "عمود الشعر العربي" التزامًا قويًا.
فاحتدمت المعركة الأدبية بين أنصارهما، وتمخّضت عن ثروة أدبية ضخمة منها كتاب الموازنة بين الطائيين لأبي القاسم الآمدي (م ٣٧٠ هـ) وهو أول كتاب ظهر في هذا الموضوع. وادّعى الآمدي في هذا الكتاب عدّة مرّات اعتماد الحق وتجنّب الهوى وترك التحامل "لتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في الشعر"، ولكن نظرة خاطفة في الكتاب تكفي للدلالة على أنه تحامل على أبي تمام في كثير من المواضع.
أمّا البيروني فليس من الغريب بعدما عرفنا من ثقافته العلمية الواسعة المتنّوعة وما رأينا من ذوقه العلمي في ملاحظاته على التراكيب والتشبيهات الأدبية المعروفة أن يعجبه مذهب أبي تمام فيحبّه ويناصره دون أن يتعصّب على البحتري وأمثاله. ولعلّك تذكر أنه قد شرح ديوان أبي تمام، وقد رأى ياقوت