للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

نقص، إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر) (١). وكان يقول للشاهدين: (إني لم أدْعُكما، ولا أنا مانعكما إن قمتما، وإنما يقضي أنتما، وإني متحرز بكما فتحرزا لأنفسكما) (٢). وكان ربما قال لمن يحكم له: (إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالمًا، ولكن لا أقضي بالظن وإنما أقضي بما يحضرني من البينة، وإن قضائي لا يحل لك شيئًا حرم الله عليك) (٣). وكان يحيى بن زيد التجيبي قاضي عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ) بالأندلس، وكان من رسمه إذا اجتمع الناس عنده للحكومة بدأ بوعظهم وتذكيرهم، فلا يزال يخوفهم الله جل جلاله ويحذرهم وبال الجدال بالباطل، وما يلحق المبطل من سخط الله جل جلاله وعقوبته، ويمثل لهم مواقفهم بين يديه في القيامة، ثم يذكر ما يلزم القاضي من الحساب، وما يجب عليه من التحري لإصابة الحق والاجتهاد لتخليص نفسه، ثم يأخذ في النوح والبكاء على نفسه، فيكون ذلك دأبه، حتى لربما انصرف عنه أكثر المختصمين باكين وجلين، قد تعاطوا الحق بينهم (٤).

ومع هذا التقرير ههنا فإنه ربما وجد في القضاة من يفتي أو يحدِّث أو يُناظر في مجلس القضاء، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي تقل فيها الخصومات، ويتهيَّأ للقاضي في مجلسه من اتساع الزمان ما يسمح له بالفتيا أو المناظرة أو المباحثة مع المتفقهة أو عامة الناس، حتى إن قاضي البصرة في الزمان الأول كان يدعى المفتي، وكان ابن عباس رضي الله عنه يفتي الناس ويحكم بينهم (٥). وكذلك كان شريح (ت ٧٨ هـ) في الكوفة يقضي ويفتي (٦)، وكان أشياخ الكوفة يأتونه فيناظرونه في (الذي بيده عقدة النكاح) حتى يجثو على


(١) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٢٨٣)، وانظر (٢/ ٣٩٢).
(٢) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٢٩١).
(٣) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٣٦٣).
(٤) المرقبة العليا، النباهي (٤٣). ومثل ذلك قيل في قاضي قرطبة مهاجر بن نوفل القرشي. انظر: قضاة قرطبة، محمد بن الحارث الخشني (١٣).
(٥) أخبار القضاة، وكيع (١/ ٢٨٨).
(٦) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٢٩٣)، وإذا تأملت ههنا ما سبق من قول شريح: (إني لست أفتي ولكن أقضي). أخبار القضاة (٢/ ٢٩٥). علمت أن الأمر اعتباري إضافي يراعي فيه الحال.

<<  <   >  >>