للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

منها (١). وجاء رجل إلى قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري (ت ١٦٨ هـ) فقال له: هلكت هلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: بلغني أن خصمي كان عندك ولست حاضرًا، فقال القاضي: فهو ذا أنت عندي وليس خصمك حاضرًا.

فكأنما صبَّ عليه ذنوبًا (٢).

ثم إذا علم هذا فإن مجلس القاضي في الحكم بين الناس ليس مجلس علم ولا فتيا، بل مجلس إلزام للخصوم وإنفاذ للحقوق، ولما قال رجل لشريح (ت ٧٨ هـ) في مجلس القضاء: أوصني ههنا، قال شريح: إني لم أجلس ههنا للحديث (٣). وليس مقامه أيضًا مقام الأمير أو الوجيه الذي يصلح بين الناس من مال نفسه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه عزل قاضي البصرة أبا مريم الحنفي لما أصلح بين متخاصمين من ماله، وقال له: (إني لم أوجِّهك لتحكم بين الناس بمالك، إنما وجهتك لتحكم بينهم بالحق) (٤). وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ) حيث عزل قاضي المدينة عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة النصارى، وذلك أنه كان إذا اختصم إليه اثنان في الشيء التافه أخرجه القاضي من ماله، فكلمه عمر فقال: لا أستطيع غير ذلك، فعزله عمر (٥).

وليس مجلس القاضي أيضًا بمجلس الواعظ الذي يذكِّر الناس ويخوِّفهم، بل يحكم بالبينات ويفصل بينهم فيما اشتجروا فيه من الخصومات، غير أن القاضي إنما يحكم بالبينات والظواهر، وربما تجرَّد صاحب الحق عن بينة تشهد بصدقه، وليس للقاضي آنذاك إلا يحكم بما يسعف من البينات والحجج الظاهرة، ومن ثمَّ كان وعظ القاضي قبل الحكم وبعده نافعًا لهم في تحري الأمانة والصدق، وربما عاد غافل بالذكرى إلى رشده، وانتهى كاذب عن غيِّه، وكان شريح إذا اجتمع الخصوم قال لهم: (سيعلم الظالم حظَّ من


(١) أخبار القضاة، وكيع (١/ ٣٣٣).
(٢) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ١١٥).
(٣) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٢٢٣)، وقد مضت الإشارة فيما مضى إلى فتيا القاضي.
(٤) أخبار القضاة، وكيع (١/ ٢٧٢).
(٥) أخبار القضاة، وكيع (١/ ١٣٤).

<<  <   >  >>