للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وهذه الحال التي كان عليها الناس في بعض الأوقات والبلدان من قلة الخصومات وطرح التكلف وضعف الداعي إليه، شارحة للكثير من أحوال التبسط المحكية عن طوائف من القضاة، أو تسامحهم فيما يتشدد فيه من تأخر عنهم (١).

والذي ينبغي أن يعلم على كل حال أن مجلس القضاء مجلس جليل مهيب، والمقسطون من القضاة ثوابهم عظيم عند الله جل جلاله، كما أن الظلمة منهم والجهلة الذين يجترئون على القضاء بغير علم يتوجه في حقهم من الوعيد ما فرَّ لأجله الأئمة الكبار من القضاء خوفًا وجزعًا، وأخبارهم في ذلك مشهورة مستفيضة (٢). ومن ذلك ما حكاه الحافظ أبو بكر الباغندي (ت ٣١٢ هـ) قال: كنت بسرَّ من رأي، وكان عبد الله بن أيوب المخرّمي (ت ٢٦٥ هـ) يقرب إليَّ فخرج توقيع الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سرّ من رأي إلى بغداد، حتى دققت على عبد الله بن أيوب بابه فخرج إليَّ، فقلت: لك البشرى. فقال: بشَّرك الله بخير، وما هي؟ قال: قلت: خرج توقيع السلطان بتقليدك القضاء لأحد البلدين: إما سرّ من رأى أو بغداد-شك أحد الرواة-، قال: فأطبق الباب، وقال: بشَّرك الله بالنار. وجاء أصحاب السلطان إليه فلم يظهر لهم فانصرفوا (٣). وكان قاضي القيروان عيسى بن مسكين (ت ٢٩٥ هـ) إذا تحدث عن أيام قضائه قال: (كنت في بليَّتي) و (كنت أيام تلك المحنة) (٤).

وقال بعض من وصف جلوس أبي العباس بن طالب (ت ٢٧٥ هـ) للقضاء: (كنت أنظر إلى أبي العباس بن طالب، إذا تفرَّغ من القضاء بين الناس قدم فوقف وحوَّل وجهه إلى القبلة ثم بسط كفيه، فنظرت إلى دموعه وهي تجري


(١) انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٨٤) وفي (٢/ ١٦٨)، قضاة قرطبة، الخشني (٨٠).
(٢) عقد الخشني فصلًا للذين فروا من القضاء في: قضاة قرطبة (٣)، وانظر: عزوف الفقهاء عن تولي القضاء في العصرين الأموي والعباسي، د. صالح الشمري وزميله، مجلة سُرَّ من رأى، كلية التربية بجامعة سامراء، مجلد (٩)، عدد (٢٤).
(٣) نشوار المحاضرة، التنوخي (٤/ ١١٣).
(٤) المرقبة العليا، النباهي (٣١).

<<  <   >  >>