للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق (١).

فمن أهمل الشروط التي ذكرها الفقهاء ونصب نفسه للفتيا دون أن يكون أهلًا لها فقد ارتكب عظيمة من الخطايا. قال شهاب الدين القرافي (ت ٦٨٤ هـ) في شأن من أهمل شرطًا واحدًا من شروط المفتي وهو العلم بأصول الفقه: (فالناس مهملون له إهمالًا شديدًا، ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج والإحاطة بها، فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا بالتخصيصات من منقولات إمامه، وذلك لعب في دين الله تعالى وفسوق ممن يتعمده. أَوَ ما علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى؟! وأن من كذب على الله تعالى أو أخبر عنه مع عدم ضبط ذلك الخبر فهو عند الله تعالى بمنزلة الكاذب على الله؟! فليتق الله تعالى امرؤ في نفسه ولا يقدم على قول أو فعل بغير شرطه) (٢).

فيعلم من هذا أن مقام الفتيا مقام صعب زائد عن مجرد العلم بالمسألة أو الحكم، بل هو زائد عن درجة الفقيه الذي يحسن فهم المسألة وتكون به القدرة على أن يشرحها في مجالس الدرس، قال ابن عبد السلام (ت ٧٤٩ هـ): (فتجد من يحفظ أصولًا كثيرة من الفقه ويفهمها ويعلمها غيره، وإذا سئل عن واقعة جزئية من مسائل الصلاة أو من مسائل الأيمان لا يحسن الجواب، بل لا يفهم مراد السائل عنها إلا بعد عسر) (٣).

ولذا فرَّق طوائف من الفقهاء بين فقه الفتيا وعلم الفتيا، كما فرَّقوا بين فقه القضاء وعلم القضاء، فقالوا: الفقه معرفة الأحكام الكلية، أما علم الفتيا والقضاء فهو العلم بتلك الأحكام الكلية مع العلم بكيفية تنزيلها على


(١) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (٢/ ١٢٢٥).
(٢) الفروق (٢/ ٥٤٥).
(٣) منح الجليل، محمد عليش (٤/ ١٣٧)، وهو في المعيار المعرب (١٠/ ٨٠) مع اختلاف يسير.

<<  <   >  >>