للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

النوازل والواقعات (١).

فالفتيا وما أشبهها من فقه العمليات المفتقرة إلى التجربة والممارسة صناعةٌ يتخرج بها المتفقه تحت نظر شيخه حتى يجيزه بها، قال عيسى بن سهل (ت ٤٨٦ هـ): (وكثيرًا ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول: الفتيا صنعة. وقد قاله قبله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله قال: الفتيا دربة، وحضور الشورى في مجلس الحكام منفعة وتجربة. وقد ابتليت بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سليمان بن أسود، وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن. ومن تفقد هذا المعنى من نفسه ممن جعله الله إمامًا يلجأ إليه ويعول الناس في مسائلهم عليه، وجد ذلك حقًّا، وألفاه ظاهرًا وصدقًا، ووقف عليه عيانًا وعلمه خبرًا، والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه) (٢).

والمفتي يستصلح بالفتيا أحوال الناس إلى ما هو خير مما هم عليه، وربما أفتى بالمرجوح فقهًا (٣)، أو رخَّص في المحظور خشية مما هو أشدُّ منه، أو اعتبر عموم البلوى به (٤)، وغير ذلك مما لا تتهيَّأ الفتيا فيه بمجرد العلم بأصل المسألة، إلا أن يكون معه حسن معرفة بأحوال الناس ليحسن تنزيل الأحكام الكلية عليها. قال ابن حجر الهيتمي (ت ٩٧٤ هـ): (وليس هذا المقام ينال بالهوينا، أو يتسوَّر سوره الرفيع من حفظه وتلقَّف فروعًا لا يهتدي لفهمها ولا يدري مأخذها ولا يعلم ما قيل فيها، وإنما يجوز تسوُّر ذلك السور المنيع من خاض غمرات الفقه حتى اختلاط بلحمه ودمه، وصار فقيه النفس بحيث لو قضى برأيه في مسألة لم يطلع فيها على نقل لوجد ما قاله سبقه إليه


(١) انظر: رسائل ابن عابدين (٢/ ١٢٩)، فتاوى ابن رشد (٣/ ١٤٩٧)، المعيار المعرب، الونشريسي (١٠/ ٧٨).
(٢) المعيار المعرب، الونشريسي (١٠/ ٧٩)، وهو موجود في: ديوان الأحكام الكبرى، ابن سهل (٢٥)، مع اختلاف يسير. وانظر: الفتوى في الشريعة الإسلامية، د. محمد الخنين (١/ ١٨٣).
(٣) انظر تفصيل ذلك في: الفتوى في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله الخنين (١/ ٣٢٧)، مراعاة القول الضعيف في الفتوى لدى فقهاء الغرب الإسلامي، أسماء المخطوبي (٣٧).
(٤) راجع أمثلة لذلك في: أسباب عدول الحنفية عن الفتيا بظاهر الرواية، د. لؤي الخليلي (٣٦٤).

<<  <   >  >>