للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بأولها، ويتلقى كل قرن من قرون هذه الأمة عمن قبله العلم والعمل والإيمان، فالأمة لم ترث علم الشريعة بأفرادها بل بمجموعها، وما من جيل من أجيالها إلا وعلم الشريعة ظاهر فيه بمجموعه، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة.

أرأيت كيف حفظ الله كتابه الكريم بعموم الأمة دون أفرادها حتى لم يختلَّ منه حرف؟ فكذلك حفظت الشريعة فلم يضع منها شيء.

فمجالس العلم ومجامعه كالينابيع التي يغترف منها الناس فيستقلون ويستكثرون، ثم يعود الوالدان بالتعليم والتربية على أولادهما، وذو الفضل على أهل فضله، وحامل الفقه إلى من هو أفقه منه، فيأخذ الناس العلم بالتعلم أو المحاكاة، قال ابن خلدون (ت ٨٠٨ هـ): (البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب والفضائل تارة علمًا وتعليمًا وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة) (١).

ولما قال صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: ((وصلوا كما رأيتموني أصلي)) (٢)، فإن أصحابه رضي الله عنهم تلقوا عنه علم الصلاة قيامها وركوعها وسجودها وخشوعها وتعظيمها، وتلقى عنهم من بعدهم ذلك. حتى روى الإمام أحمد (ت ٢٤١ هـ) في مسنده فقال: (حدثنا عبد الرزاق، قال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير رضي الله عنه، وأخذها ابن الزبير رضي الله عنه من أبي بكر رضي الله عنه، وأخذها أبو بكر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم. ما رأيت أحدًا أحسن صلاة من ابن جريج) (٣). ولما سئل أبو المثنى رياح بن الحارث النخعي الكوفي: أليس قد رأيت عبد الله رضي الله عنه؟ قال: (بلى، وحججت مع عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين ثلاث حجات وأنا رجل، قال: وكان عبد الله رضي الله عنه وعلقمة يصفَّان الناس صفين عند أبواب كندة، فيقرئ عبد الله رجلًا ويقرئ علقمة رجلًا، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام، فإذا رأيت علقمة فلا يضرك ألَّا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتًا وهديًا، وإذا رأيت


(١) مقدمة ابن خلدون (٣/ ٢٢٦).
(٢) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر (٦٣١).
(٣) المسند (٧٣).

<<  <   >  >>