للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال ابن بطة (ت ٣٨٧ هـ) معلِّقًا على قصة عمر رضي الله عنه مع صبيغ: (وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم؛ ليتفقهوا في دينهم ويزدادوا بصيرة في إيمانهم، ويتعلموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم، فلما بلغ عمر رضي الله عنه قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد إلى إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر رضي الله عنه أن مسائله غير هذا، علم من قبل أن يلقاه أنه رجل بطال القلب خالي الهمة عما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن والتنقير عما لا يهتدي عقله إلى فهمه فيزيغ قلبه فيهلك، فأراد عمر رضي الله عنه أن يكسره عن ذلك) (١).

والمفتي يقابل كلَّ مستفت بما يلائم غرضه، ويعلم أن من الناس من يريد الاحتيال بالفتوى إلى ما يريد فلا يجعل المفتي نفسه سبيلًا له إلى مقاصد السوء، ويكون فيه من حسن البديهة والفطنة في النظر إلى حال السائل ما يحمله على ترك الاسترسال وراءه إلى سوء مراده. قال ابن عابدين (ت ١٢٥٢ هـ): (فإنا نرى الرجل يأتي مستفتيًا عن حكم شرعي، ويكون مراده التوصل بذلك إلى إضرار غيره، فلو أخرجنا له فتوى عما سأل عنه نكون قد شاركناه في الإثم؛ لأنه لم يتوصل إلى مراده الذي قصده إلا بسببنا) (٢).

ويحكى أن أعرابيًّا أتى ابن أبي ذئب (ت ١٥٩ هـ) فسأله عن مسألة طلاق، فأفتاه بطلاق زوجته، فقال: انظر حسنًا. قال: نظرت وقد بانت منك.

فولى الأعرابي وهو يقول (٣):

أتيت ابن ذئب أبتغي الفقه عنده... فطلق حتى البتِّ بُتَّت أنامله


(١) الإبانة (١/ ١٨١).
(٢) رسائل ابن عابدين (٢/ ١٣١).
(٣) أدب الدين والدنيا، الماوردي (١٣٤).

<<  <   >  >>