للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقال الإمام مالك (ت ١٧٩ هـ): كان ابن هرمز (ت ١٤٨ هـ) رجلًا كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الكلام قليل الفتيا شديد التحفظ، وكان كثيرًا ما يفتي الرجل، ثم يبعث في أثره من يرده إليه، حتى يخبره بغير ما أفتاه (١).

ويُذكر أن إسحاق بن منصور الكوسج (ت ٢٥١ هـ) بلغه أن أحمد بن حنبل (ت ٢٤١ هـ) رجع عن تلك المسائل التي علَّقها عنه، فجمع إسحاق تلك المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلًا إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة استفتاه فيها، فأقرَّ له بها ثانيًا، وأعجب أحمد بذلك من شأنه (٢).

واستُفتي الحسن بن زياد اللؤلؤي (ت ٢٠٤ هـ) في مسألة فأخطأ، فلم يعرف الذي أفتاه، فاكتري مناديًا فنادى: إن الحسن بن زياد استُفتي يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ، فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه، فمكث أيامًا لا يفتي حتى وجد صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب كذا وكذا (٣).

وحكى بعض مشايخ بلخ قال: دخلت بغداد وإذا على الجسر رجل ينادى ثلاثة أيام يقول: ألا إن القاضي أحمد بن عمرو الخصاف (ت ٢٦١ هـ) استُفتي في مسألة كذا، فأجاب بكذا وكذا، وهو خطأ، والجواب كذا وكذا، رحم الله من بلَّغها صاحبها (٤).

وهذا التحفظ في الفتيا والتثبت فيها صنيع من يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه فسائله عما علم وعلَّم وأفتى، فمن كان كذلك كان حريًّا بالتوفيق، وأن يلهمه الله ويسدِّده. لا كمن يفتي بالجهل ويتقحم في دين الله العظائم، وقد حكى أبو محمد بن حزم (ت ٤٥٦ هـ) فقال: (ولقد أذكرنا هذ مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلًا، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان كان مدار الفتيا عليهما


(١) المعرفة والتاريخ، الفسوي (١/ ٦٥٢).
(٢) طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى (١/ ٣٠٦).
(٣) أخبار أبي حنيفة وأصحابه، الصيمري (١٣٥).
(٤) الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (١/ ٢٣١).

<<  <   >  >>