للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لأن كل طرف قد ذهب مذهبًا يجادل عنه، وجلس مع مناظره كمجلس الخصم من خصمه، فكان لذلك المجلس آداب ورسوم مباينة لمجالس المباحثة والمذاكرة، وسيأتي الكلام في هذا. فأما المباحثة والمذاكرة فبابهما تثبيت العلم الذي سبق تعلمه في مجلس الدرس أو غيره، أو التفتيش عما هو غير معلوم للمتباحثين وقت البحث، وسياق هذين الأمرين واحد من حيث المعنى أولًا؛ لأن مدارسة الفقه ومذاكرته كثيرًا ما تفضي إلى السؤال الذي يدفع إلى البحث، ومن حيث حقيقتهما في مجالس الفقهاء في نفس الأمر ثانيًا؛ فإن الفقهاء لا سيما الأقران منهم إذا اجتمعوا في الفقه كان حديثهم مشتملًا على المذاكرة والمباحثة معًا، وإلى هذا أشار بدر الدين بن جماعة (ت ٧٣٣ هـ) فقال: (وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سياتي إن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم؛ ليثبت في أذهانهم ويرسخ في أفهامهم ولأنه يحثهم على استعمال الفكر ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق) (١).

فإن قيل: فهل هذه المعاني متحصلة على جهة البتِّ والقطيعة؟ قيل: بل هي جارية على الاعتبار والتقريب لتباين أغراضها في نفس الأمر، فأما تباينها في الوجود فقد يتفق وقد لا يتفق. ولذا فإن جماعة من الباحثين ربما ذكروا المناظرة والمباحثة في أسماء المذاكر (٢) ة، أو جعلوا المذاكرة والمباحثة في أسماء المناظرة (٣). وأما ذكر (الأقران) في مجلس المباحثة والمذاكرة فليس على وجه الاشتراط بل جرى مجرى الغالب لا غير، فقد عُلم أن كلًا من المذاكرة والمباحثة قد يجريان بين التلميذ وأستاذه، فإن كان الجواب متحصِّلًا في ذهن الأستاذ فهو تعليم بصورة المباحثة، كما قد يتفق التعليم بصورة المناظرة. أما إن صحب ذلك مدافعة ومراجعة من التلميذ فهي مباحثة للوصول إلى الصواب. وعلى أية حال فإن هذه المعاني اعتبارية لا يطلب فيها تكلف


(١) تذكرة السامع والمتكلم، تحقيق: محمد العجمي (٧٦).
(٢) انظر على سبيل المثال: فن المذاكرة عند المحدثين، د. محمد العشماوي (٢٧).
(٣) انظر على سبيل المثال: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، د. طه عبد الرحمن (٦٩).

<<  <   >  >>